برازا.. النبيل الإيطالي الذي غزا الكونغو بعواطفه

بانوراما 2021/05/27
...

  نيك دول
  ترجمة: بهاء سلمان 
 
كان لقاؤهما الأول وديا، إذ التقى بيير سافورغنان دي برازا، الممثل الإيطالي للجمهورية الفرنسية الثالثة، الأميركي هنري مورتون ستانلي، إذ يملك هذا مخيّما مجهّزا جيّدا على أرض ما يعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد عمل ستانلي (الويلزي المولد) مستكشفا لصالح ليوبولد الثاني ملك بلجيكا. ورغم حاجز اللغة، اجتمع الرجلان لتناول وجبة طعام فخمة. ومن ثم، عبّر برازا لستانلي، وهو يطلق دخان سيكارته، عن مدى تأثره بالرحلة المائية الناجحة لهذا الرجل المسن عبر نهر الكونغو.
عندما ذكر برازا اتفاقا كان قد أبرمه مع زعيم محلي لتاسيس مقر فرنسي على الساحل الشمالي لبحيرة ماليبو، استغرق الأمر حتى الصباح ليتضح لستانلي «حقيقة أن ضيفه القاري لم يكن مجرّد زائر معجب بأعماله»، بحسب كاتبة سيرة برازا، ماريا بيترنغا. 
وتعد البحيرة، وهي حوض ضخم عند أسفل نهر الكونغو، نقطة ستراتيجية حيوية، تمثل بداية جزء صالح للملاحة بمسافة ألف ميل من الممر المائي الهائل. وقد تعهد ستانلي، الذي زار المنطقة قبل سنوات، بكسب حصة من العملية. ليؤسس كل مستكشف مستوطنات لقادتهم الأوروبيين ضمن الضفتين المتقابلين للنهر. حاليا، ومع أربعة أميال فقط تفصل بينهما، تعتبر برازافيل وكينشاسا، سابقا ليوبولدفيل، أقرب عاصمتين بالعالم.
وفي أمر تنفرد به عن بقية العواصم الأفريقية، لا تزال برازافيل تكرّم مؤسسها الأوروبي، غير أن برازا كان بعيدا جدا عن معظم اوروبيي عصره. وبولادته في روما سنة 1852، والعاشر بين 13 طفلا ضمن أسرة إيطالية ممّيزة، كان بيترو «طفلا متهورا» حالما على الدوام بالمغامرة. وأرسلت الأسرة ابنها المراهق إلى الأكاديمية البحرية الفرنسية. كان عمره حينها 21 سنة، ليصبح بيترو مواطنا فرنسيا، ويبدل اسمه إلى بيير.
سنة 1875، رفع الشاب ذو 23 عاما مستوى ولعه الكبير عندما أقنع الحكومة الفرنسية برعاية حملة استكشاف نهر أوغوي، حاليا الغابون، أملا بأن يكون ممرا إلى داخل أفريقيا. وبحسب بيترنغا، كان «الاسلوب الجديد لمهمته الاستعمارية هو حمل أقل كمية من السلاح، وأطنان من الهدايا، مع تخبئة كميات من المفرقعات النارية لترهيب القبائل المحلية. وطيلة ثلاث سنوات، أثبت برازا وفريقه 
الصغير لحكومة فرنسا نجاح أساليبه، حتى لو كان نهر اوغوي «ليس ممرا للتغلغل داخل الأراضي النائية،» بحسب رسالته المؤرخة في تموز 1877.
 
منهاج مختلف
تزامنت رحلة برازا لنهر اوغوي مع بعثة ستانلي من زنجبار شرقا إلى بلدة بوما غربا، قرب المحيط الاطلسي، برحلة سبعة آلاف ميل أكملها المستكشف الويلزي بالزمن نفسه الذي استغرقه برازا لقطع مسافة 900 ميل فقط. نفذ ستانلي، أو كما يلقبه الأفارقة «محطم الصخور»، استكشافاته بدقة عسكرية؛ أما برازا، الملقب «أبو العبيد»، فقد كان على النقيض منه، حيث جال داخل أفريقيا بتوئدة، «يقضي أسابيع أو اشهر لمصادقة القبائل التي يلتقيها»، بحسب كتاب ريتشارد ويست «برازا الكونغو».
يقول ويست: «لو كان ستانلي قد تبنى الأسلوب نفسه، لما وصل إلى مصب نهر الكونغو إلا بحلول القرن العشرين. وربما أسهمت شخصيتا الرجلين المختلفتين بإضفاء طابع معيّن لتأريخ منطقة الكونغو، فهما لم يصوغا قدرها، وإنما وقع هذا الشرف على عاتق القوى الأوروبية، وعلى رأسها، الملك ليوبولد».
وبعد أسابيع من تأسيسه لمستعمرة على ضفاف بحيرة ماليبو ولقاء ستانلي لأول مرة، عاد برازا إلى باريس ليجد «حكومة تساورها الشكوك حيال السياسة الاستعمارية»، بحسب بيترنغا. ولتحفيز الاهتمام العام بقضيته، شرع برازا بحملة علاقات عامة قوية وناجحة للغاية؛ ولم يمض وقت طويل حتى حمل نوعا من السكائر والصابون اسمه، شاع استخدامها بين أهالي باريس.
عيّن برازا سنة 1886 مفوضا عاما للكونغو الفرنسية المؤسسة حديثا، وقضى الشعبوي الارستقراطي العقد التالي من الزمن بممارسة ما كان يبشر به لفترة طويلة جدا، فقد أسس المدارس والعيادات الطبية وبرامج التدريب المهني، وطالب الأوروبيون بدفع أجور منصفة لموظفيهم الأفارقة، بينما كان البلجيكيون، على الضفة الأخرى من النهر، يخضعون الأهالي لظلام الفزع والرعب، بحسب بيترنغا.
 
حملة مضادة
انطلقت حملة شعواء مطوّلة لتشويه سمعة برازا، لا يعلم بها، داخل الصحافة الفرنسية، وكان العقل المدبر لها الملك ليوبولد، ووصفته بأنه «شخص معجب بالسود وثقافتهم»، وأنه كان «رائعا» مع الأفارقة، فأقيل من منصبه سنة 1898 من قبل حكومة فرنسية متلهفة لانتزاع أكبر قدر من عائدات مستعمرتها. ورغم شعوره بالتعب والإحباط، لكن حبه الشديد لزوجته، تيريزا تشامبرون، دفعه للذهاب إلى الجزائر لبدء حياة جديدة؛ وكانت فترة هناء لهما، لكنها لم تدم طويلا.
تدهورت أحوال الناس في الكونغو الفرنسية حتى تشابهت مع أقرانهم على الضفة الأخرى من النهر. وبحلول سنة 1905، وبعد تلقي خبر إعدام شخص بواسطة إصبع ديناميت وضع داخل شرجه، وافق برازا وزوجته على العودة للمنطقة لفتح تحقيق رسمي، وقد أصيبا بالفزع مما وجداه، لكنه لم يتمكن مطلقا من ارسال تقريره، فقد مرض أثناء عودته، وارتابت زوجته بتسميمه، فمات في داكار.
وعلى نحو غريب، لم تكن تلك الزيارة الأخيرة لبرازا إلى الكونغو، ففي سنة 2006، دفعت حكومة الكونغو نفقات نقل رفات بيير وتيريزا وأطفالهما الأربعة من مقبرة جزائرية إلى ضريح برّاق في برازافيل كلّف تشييده ملايين الدولارات، كجزء من إحياء ذكراه، واستكملت بمتحف وحديقة منحوتات. وبينما بقي الشعب الكونغولي منقسما حيال إرث برازا، أعدّ الكثيرون النصب التذكاري الشاهق مضيعة للمال.