أولى مدن العالم التي تأسست في بلاد الرافدين

بانوراما 2022/03/22
...

روّاد الحضارة البشريَّة في أريدو
جوشوا مارك
  ترجمة: مي اسماعيل
 
ولعل هذا هو السبب الذي جعل بلاد الرافدين تبتكر ما نعرفه اليوم بمصطلح- الحضارة، وأوائل المجتمعات التي عرفتها الإنسانية.
مدينة الملوك
بنى السومريون معبدا للإله الذي قهر الفوضى وجلب النظام إلى العالم، في مكان اسمه "أريدو"؛ كان الأقصى جنوبا على حافة سهل النهر الغريني وبالقرب من المستنقعات؛ منطقة انتقالية بين البحر والأرض، بمجاريها المائية المتغيرة والجزر وأدغال القصب الكثيفة. أراضي الأهوار تلك، المحفوفة بالأرض الطينية الصلبة وكثبان الرمال؛ شكلت بالنسبة للناس قوة لإلهية، وقدمت تجسيدا ماديا لنظام نشأ بعد الفوضى، وجرى الاحتفال بمياه الحياة العذبة في أريدو، إذ ربطوها بما أسماه السومريون "أبزو  abzu"؛ المصدر الأساسي لكل الوجود والعالم الذي عاشت فيه الآلهة وانبثقت منه. 
جاء الإله "إنكي" من أبزو وعاش في أريدو؛ ووفق سرديات سلالة الملوك السومريون.. "بعدما نزلت الملكية من السماء استقر الملوك في أريدو".. وهذا المركز الحضري أصبح أول مدن السومريين. 
 
أريدو والنموذج الاسطوري
كتبت المؤرخة والباحثة البريطانية- النمساوية "غويندولين ليك"، "وهكذا لا تكون جنة عدن في بلاد ما بين النهرين حدائق غنّاء بل مدينة؛ أُقيمت على بقعة من الأرض الجافة المحاطة بالمياه.. أول المباني كان المعبد.. وهكذا قدمت تقاليد وادي الرافدين منظورا لتطور المدن ووظيفتها، كما أن أريدو قدمت نموذجا اسطوريا؛ فعلى خلاف جنة عدن التوراتية، التي نُفي منها الإنسان إلى الأبد بعد السقوط؛ ظلت أريدو مكانا حقيقيا مشبعا بالقداسة، ولكن يمكن الوصول إليه دائما". 
لم تكن أريدو أول مدن العالم بالنسبة للسومريين فحسب؛ بل كانت بداية الحضارة.  والاعتقاد أن أي مدينة قامت بعدها كانت لها أصل من الرمال والمياه التي أحاطت أريدو. 
 
السومريون وتغيير العالم
لا تتفق النظريات الحديثة عن سبب قيام أولى مدن العالم في إقليم ما بين النهرين وليس في مكانٍ آخر؛ وتتراوح بين فرضية قديمة عن هبوط أقوام من الفضاء إلى الاضطرابات الاجتماعية أو الطبيعية، التي أجبرت الناس على التجمع معا في المراكز الحضرية، وإلى المخاوف البيئية وحتى إلى قيام هجرات قسرية للمجتمعات الريفية إلى المدن.  
لا يوجد قبول شامل لأيٍ من تلك النظريات؛ بينما تُرفض نظرية أقوام الفضاء من كل باحث محترم. لكن ما يُتفق عليه عموماً إنه من اللحظة التي قرر فيها قدماء السومريين البدء بعملية التحضُّر فقد غيّروا الطريقة التي سيعيش فيها البشر إلى الأبد.  كتب المؤرخ  البريطاني "كريوازيك: "كانت تلك لحظة ثورية في تاريخ البشرية؛ فلم يهدف السومريون لما هو أقل من تغيير العالم.  كانوا أول من تبنى المبدأ الذي قاد التطور والتقدم عبر التاريخ؛ وما زال يُلهم ويُحرّك غالبية الناس في العصور الحديثة؛ ألا وهو الاعتقاد أن من حق الانسانية وهدفها وقدرها القيام بتحويل وتحسين الطبيعة والسيطرة عليها واتخاذ دور 
السيادة فيها.
 
التوجه الطبيعي للبشر
قد لا يكون المبدأ الذي أشار اليه كريوازيك أكثر من التوجه الطبيعي للبشر للتجمع معا لضمان السلامة من العوامل المحيطة، ولعل له جذوراً دينية في الممارسات الدينية المجتمعية التي تقدم (من بين منافعها) توكيدا بإستمرار وجود نظامٍ ومعنى لأحداث الحياة التي قد تبدو عشوائية. ويرى المؤرخ الأميركي "لويس ممفورد" أن.. "عادة اللجوء إلى الكهوف لممارسة الطقوس السحرية الجماعية تبدو وكأنها تعود إلى حقبة أكثر قِدما، واستمرت مجتمعاتٍ بكاملها تعيش في الكهوف والتجويفات الصخرية بالحياة في مناطق متفرقة حتى وقتنا الحاضر. وقد نجد الاطار العام للمدينة بكونها شكلا خارجيا ونمطا داخليا للحياة في مثل تلك التجمعات".
مهما كان السبب الذي قاد إلى بدء تطور المدن في وادي الرافدين فإن العالم لن يكون بعدها كما كان. كتب كريوازيك قائلا: "منذ نحو 4000 سنة ق.م. وحتى القرون العشرة أو الخمسة عشر التالية وضع سكان أريدو وجيرانهم أُسس كل شيء نعرفه تقريبا كحضارة.
 
 
الثورة الحضريَّة
وهذا ما يُطلق عليه - "الثورة الحضرية"؛ رغم أن ابتكار المُدن قد يُعتبر فعليا أبسط مقوماتها. مع المدينة جاءت الدولة المركزية وتراتبية الطبقات الاجتماعية وتصنيفات العمالة وتنظيم الدين وإقامة المباني الصرحية ومبتكرات الهندسة المدنية والكتابة والأدب والنحت والفن والموسيقى والتعليم والرياضيات والقانون، ناهيك عن مجموعة كبيرة من الاختراعات والاكتشافات الجديدة؛ تتراوح من أدوات مثل المركبة ذات العجلات والقوارب الشراعية إلى فرن الخزف وعلم المعادن وابتكار المواد الاصطناعية 
(المُركبّة). 
إضافة لكل ما تقدم كانت هناك مجموعة هائلة من المفاهيم والأفكار، وهي أساسية لطريقتنا في النظر إلى العالم؛ مثل مفهوم الأرقام أو الأوزان؛ وهو منفصل تماما عن أشياء فعلية يجري عدّها أو وزنها (مثل الرقم عشرة أو الكيلو الواحد)؛ وهي مفاهيم نسينا منذ زمن بعيد أن أحدا كان عليه اختراعها أو اكتشافها.. جنوب وادي الرافدين كان المكان الذي تحقق فيه كل ذلك للمرة الأولى.
 
قائمة ابتكار مُذهلة
قائمة ابتكارات بلاد الرافدين طويلة جدا، ومن الصعب تصوّر كيف كانت الحياة العصرية ستكون بدون تلك الابتكارات. كانت بلاد الرافدين موطن أول مدن العالم على الاطلاق، واكتسبت الكتابة شكلها المعروف هناك، ووجد المنقبون فيها أول مركبة ذات عجلات في العالم. 
فيها تمكن الانسان من تدجين الحيوانات، وقطعت البشرية خطوات واسعة في وسائل الزراعة، وجرى ابتكار وتصنيع أدوات جديدة وأسلحة. 
كان أناس تلك الأرض أول من درس السماء في الليل؛ فتابعوا دورة القمر وقسموا الساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية. قادت المعتقدات الدينية حياة الناس في بلاد الرافدين؛ وكان ذلك واحدا من عوامل توحيد المدن المتنوعة التي قامت هناك. 
ومن المعتقدات الدينية ظهرت التقاليد والمبادئ والتراتبية الاجتماعية. 
كان سكان بلاد الرافدين القدماء سابقون لزمنهم من عدة نواحي؛ فقد كان للنساء كيانهن الخاص وحرية امتلاك الأرض وإدارة الأعمال وطلب الطلاق عند 
الحاجة. 
جاء في قصة الخليقة كما روتها حضارة بلاد الرافدين أن العالم تشكل حينما انتصرت الآلهة على قوى الفوضى؛ ولعل هذا ما يمكن قوله عن بلاد الرافدين أيضا؛ التي كانت (بملوكها ونصوصها وتجارتها) انتصاراً لقدرة الانسان على الغزو والازدهار؛ وبذا كانت نسخة أساسية لمدن مستقبلية لا حصر لها، ودول وامبراطوريات جاءت 
بعدها. 
 
قيام مدينة {أوروك}
لم يبقَ مبدأ المدينة (الذي تجسد بقيام أريدو) طويلا حبيس تلك البقعة من الأرض؛ وانتشر مفهوم الحضرية سريعا عبر أرض 
سومر. 
شهد عام 4500 ق.م. (تقريبا) قيام مدينة "أوروك"، التي تعتبر من أوائل مدن العالم. قد تكون أريدو فعليا أول مدن العالم كما تؤكد الأساطير السومرية؛ لكنها قامت بحدود 5400 سنة ق.م.؛ قبل زمن بعيد من اختراع الكتابة (نحو 3000 ق. م.)، وعندها كانت أوروك قد استقرت وأنتجت آثارا كثيرة تشهد على حجمها وعدد سكانها، وبذا بررت الإدعاء أن أوروك أولى مدن العالم. 
أما موقع أريدو فلم يوفر سوى القليل من الدلائل مما يوحي أنه لم يكن أكثر من مركز مقدس، ولعله ليس سوى قرية أو بلدة كبيرة (بمقاييس العصر الحديث) ومفهوم الباحثين. 
 
موقع {وورلد هستوري انساكلوبيديا}