غرناطة.. حيث يتحدى الماء الجاذبيَّة

بانوراما 2022/05/17
...

 إيسمي فوكس 
 ترجمة: مي اسماعيل
تضم غرناطة واحدة من أكثر شبكات الري الهيدروليكية تعقيدا في العالم؛ حيث يرتفع الماء لنحو كيلومتر من النهر اليها. وما زالت عملية توزيع المياه في قصر الحمراء بغرناطة تحير المهندسين، بعد نحو ألف سنة من إنشائه. تنتشر المياه في جميع أرجاء مجمع قصر الحمراء الباذخ؛ وهو أهم النماذج الايقونية للعمارة الاسلامية من القرن الثالث عشر.
 
يتدفق الماء في قنوات تقوم بتبريد المباني، وينبثق من نافورات في الصالات الفخمة والأفنية، ويندفع بطرق ومسارات ذات زوايا خاصة بحيث يشكل أقواسا وإطارات عند المداخل. وهذا النظام الدقيق ذاته يُدخل اللون الى حدائق "جنة العريف" الشهيرة؛ وهي القصر الصيفي السابق المجاور للحمراء.
بعد ألف سنة من الانبهار بهذا النظام؛ جاء مقال عن التحولات الرئيسية لتاريخ الماء في الحضارة، أشار فيه البرنامج الهيدرولوجي الدولي لليونسكو إلى أن "تكنولوجيا المياه الحديثة تدين بإرثها "لهذه" الحدائق المائية والحمامات"، التي تمتع بها يوما الاثرياء والمتنفذون؛ لكنها جعلت وجود الحمامات والحدائق المنزلية الخاصة اليوم أمرا متاحا وعمليا. نشأت المدن منذ بدء التاريخ على ضفاف الأنهار والبحيرات، وعلى شواطئ البحار. وهذا ينطبق أيضا على مملكة غرناطة العظيمة، التي تطورت على مسار نهري "دارو" و"جينيل"، بينما أصبح مجتمع الأندلس الإسباني 
المستقل. 
وبالنسبة للحكام المسلمين الذين سيطروا على هذه المنطقة وغيرها من أجزاء إسبانيا لنحو ثمانمئة سنة، كان للماء دور أساسي في المجتمع؛ ليس فقط من أجل البقاء ولكن للأغراض الدينية والجمالية أيضا. تقول "روسيو دياز خيمينيز" المديرة العامة لمجلس أمناء قصر الحمراء وجنة العريف: "يعدُّ الماء في الإسلام أصل الحياة، ورمزا للنقاء ومطهرا للجسد والروح وجزءا من التقوى". 
كانت النافورات العامة المزينة بقطع السيراميك تتواجد بكثرة في شوارع مدن الاندلس، موضوعة قرب الجوامع لغرض الوضوء، أو قرب بوابات المدن لإطفاء عطش المسافرين. وحتى في المنازل كان الماء نقطة محورية؛ كما تقول خيمينيز: "نادرا ما يخلو صحن منزل أندلسي من أحد التراكيب المائية، مهما كان بسيطا؛ سواء كان حوضا أو نافورة. كما كان الماء جزءاً من روح غرناطة، وعنصرا أساسيا لوجودها". 
 
على تل "سبيكة"
لكن الحال لم يكن دائما هكذا؛ إذ يعتقد المؤرخون أن الحمراء كان أساسا قلعة عسكرية خلال القرن التاسع، شيده رجل اسمه "سوار بن حمدان" أثناء حروب المسلمين والمسيحيين الذين اعتنقوا الاسلام. وفي القرن الثالث عشر، وبعد وصول محمد الأول (أول ملوك سلالة الناصر، التي ستحكم منذ 1230 حتى الغزو الكاثوليكي الاسباني سنة 1492) تغلب المهندسون على تحدي رفع المياه الى قصر الحمراء ذي الموقع المرتفع على تل "سبيكة" وارتفاعه نحو 840 مترا، فحولوه الى مدينة مأهولة ذات سيادة بمساحة 26 فدانا، تتوافر فيها المياه العذبة 
الجارية. 
وفي حين استخدم المسلمون المستوطنون الأوائل قنوات بسيطة لنقل المياه في المناطق المحيطة لعدة قرون اعتمادا على تقنيات الري التي تعلموها من الفرس والرومان، خلال التوسع  بمنطقة البحر المتوسط وشبه جزيرة إيبيريا؛ تمثل الابتكار العظيم للناصريين بتصميم نظام ينقل المياه مسافة ستة كيلومترات من أقرب نهر ثم يرفعه غلى أعلى التل، حيث مجمعهم المتقن من الأفنية والحدائق والحمامات. تؤكد خيمينيز قائلة: "كل شيء يشير إلى أن الخلفاء الناصريين، كانوا أول من أحضر المياه إلى تل سبيكة الأحمر وجعلوه مأهولا". 
وكانت جوهرة ابتكاراتهم  "القناة الملكية-Acequia Real "؛ وهي قناة طولها ستة كيلومترات تستقي مياهها من نهر "دارو". وأُقيم سد لتحويل مجرى المياه أعلى مسار النهر؛ حيث نقلته قوة النهر على طول منحدر التل قبل توزيع المياه في قنوات أصغر. 
ثم أضيفت النواعير لرفع المياه الى مستويات مختلفة، وبعدها تنقلت خلال هياكل هيدروليكية معقدة تتكون من أحواض كبيرة وصهاريج والعديد من الأنابيب في شبكة دقيقة التداخل قبل توزيعها بين حدائق جنة العريف وقصر الحمراء عبر قناة خاصة.  
ما زال بالامكان اليوم رؤية المياه المتدفقة في حدائق جنة العريف، وتجمعها وسط الفناء محاطة بالمياه المنبثقة على شكل أقواس. ويروي المرشدون السياحيون أنه بالنسبة لملوك الناصريين كان الماء جزءاً مركزيا من القصر ورمزا مهما للمكانة والثراء؛ مما يجعله محوريا في العمارة حتى ليصعب تصور المكان بدونه. بمرور الوقت توسع نظام ري القصر وأضيفت المزيد من النواعير والبرك الكبيرة، وصهاريج لتجميع مياه الأمطار. لاحقا شيدت قناة اخرى تشعبت من القناة الملكية، سميت "القناة الثالثة- Acequia Tercio" جلبت المزيد من المياه الى مستويات أعلى وسقت البساتين الواقعة فوق جنة العريف. 
 
تتويج المعرفة
تعتبر نافورة الأسود (أو قصر الأسود) "Palacio de los Leones" واحدة من الأمثلة الأكثر تميزا في نظام ري قصر الحمراء؛ ففي احدى الافنية الانيقة توجد نافورة من الرخام الابيض تحيطها الاعمدة دقيقة الزخرفة. 
تتألف النافورة من حوض كبير يحمله اثنا عشر أسدا اسطوريا تتدفق المياه من أفواهها لتغذي أربع قنوات (تمثل أنهار الجنة) في الارضية الرخامية، وتمضي تلك القنوات في مسارها إلى داخل القصر لترطيب أجواء الغرف. 
وصفت خيمينيز نافورة الأسود بأنها تتويج وقمة للنظام المائي للقصر ككل، قائلة: "تجمع النافورة معرفة التقنيات التقليدية ونتيجة الدراسات والتجارب المثمرة عبر قرون عديدة، التي سمحت بإقامة قصر الحمراء". 
مع أن القناة الملكية شهدت تحديثا واضافات مستمرة عبر القرون؛ فقد سقطت قنوات أخرى ضحية الاهمال في القرن الماضي وتوقفت عن العمل. 
هذا العام تقود منظمة "مؤسسة مياه غرناطة - Fundación Agua Gra  nada " (غير النفعية الساعية للحفاظ على البيئة وتنمية التطور المستدام) مع "خوسيه سيفانتوس" بروفسور جامعة غرناطة المختص بتاريخ القرون الوسطى وتقنيات الري القديمة مشروعا للحفاظ على قنوات الري القديمة لاستمرارية أنظمة الري من فترة حكم المسلمين. 
حتى اليوم ورغم التقنيات الحديثة ما زال هناك الكثير لنتعلمه من تقنيات المياه القديمة تلك؛ كما يرى سيفانتوس: "سيجري العمل وفق الطرق التقليدية، مع احترام المخططات الأصلية وتاريخها، مع استعادة القنوات والبيئة المحيطة بها". ويسود الأمل أن يتجاوز المشروع منطقة قصر الحمراء؛ لتروي المياه المناطق ذات النظم البيئية شبه القاحلة لتصبح ممرا بيئيا ينمي الغطاء النباتي المحلي وموطنا للكثير من الحيوانات. تلك الاحتمالية لكسب المعرفة، إضافة للفوائد البيئية؛ دفعت العلماء والباحثين للاستفاضة في دراسة (وتعزيز) علاقة المدينة المهمة مع الماء؛ ماضيا وحاضرا 
ومستقبلا. 
كذلك يطمحون للكشف عن النظام الهيدروليكي المتطور في قصر الحمراء، وما يمكن ان يتعلموا منه اليوم. 
بي بي سي البريطانية