الزعامات السياسية لم تضع شكلا واضح الملامح

اقتصادية 2022/05/24
...

 عامر مؤيد 
ما زال الحديث عن الشكل الاقتصادي الذي يعتمده العراق بعد 2003، أمرا محيرا؛ إذ تتنوع الآراء بشكل كبير حيال هذا الأمر بسبب عدم إعلان أو تطبيق شكل اقتصادي للدولة، فضلا عن الاستمرار بالاقتصاد الريعي.  وإلى الآن يعتمد العراق في أكثر من 90 بالمئة من اقتصاده على بيع النفط، وتتأثر حياة المواطن، كلما حدثت تغييرات في سعره، وهذا بدا واضحا خلال موجة "وباء كورونا" حين هبطت أسعار النفط إلى أرقام متدنية. 
 
وبالعودة إلى الشكل الاقتصادي للنظام العراقي الحالي، يجب أن نستعرض الأنظمة الاقتصادية المعروفة والمتبعة في معظم الدول، والبداية مع النظام الرأسمالي، وهو الذي تكون فيه جميع وسائل الإنتاج مملوكة للأفراد أو القطاع الخاص (نظام السوق ) ولا تتدخل الدولة إلا بأمور معينة مثل الأمن والدفاع أو الطاقة وغيرها التي تكون فوق قدرات القطاع الخاص.
أما النظام الاشتراكي فتكون فيه جميع وسائل الإنتاج مملوكة للدولة والدولة هي التي تخطط وتنفذ من دون تدخل الأفراد أو القطاع الخاص، بينما يجمع النظام المختلط بين النظامين. 
وتعد الحرية الاقتصادية جوهر النظام الرأسمالي الذي اعتمده الاقتصاد العراقي بعد عام 2003 بشكل مفاجئ ما سبب مشكلات عدة في هذا الجانب وأدى إلى استنزاف وهدر في الثروات الوطنية.
فالمشكلة تكمن بالانتقال بشكل مفاجئ من الانغلاق المحكم إلى الانفتاح المفاجئ، ما تسبب في عدم انضباط سلوك النظام السياسي والاقتصادي في العراق وذلك لتجذر الثقافة الاشتراكية في بنية الدولة والمجتمع، وإذا به ينتقل إلى نظام جديد يختلف عنه بالكامل. 
"الصباح" استطلعت آراء خبراء الاقتصاد وطرحت عليهم سؤالا: "ما النظام الاقتصادي للعراق؟" وتباينت الإجابات حيال ذلك وفق تحليلات علمية لكل خبير منهم. 
 
وضع النظام الليبرالي 
بعد 2004 
الخبير المالي د. محمود داغر يقول: "إذا تابعنا الدستور وآراء إدارات ما بعد 2004 سنجد أنهم اختاروا النظام الليبرالي كمدخل لتنظيم الحياة الاقتصادية، لا بل تم إلغاء دائرة الرقابة على التحويل الخارجي وتم قبول استخدام العملات الأجنبية، ما يثبت هذا الخيار للنظام الحر".
وأضاف "بسبب تدني أداء الاقتصاد وضعف الإدارات الاقتصادية وعدم الفهم، جرى التدخل بالحياة الاقتصادية أحيانا بما لا يختلف عن النظام الاشتراكي للأسف، خاصة أن الموازنة العامة كأداة بيد الإدارة السياسية أصبحت تستخدم لتنفيذ مصالحها بعيدا عن الليبرالية، لذلك يكاد العالم جميعا أن يكون مع النظام الحر وتحفيز القطاع الخاص وتحويل الثروة لصالحه واقتصار دور الحكومة على الإشراف وتحديد المعايير والنوعية".
وذكر داغر أن "الخلل ليس في النظام بل بمستوى التدخل السياسي الذي حول الوزارات والموازنات والإنفاق العام إلى حدائق خلفية لمصالح الطبقة السياسية".
متناقضة {الإسلام والديمقراطية} ولدت نظام "السوق الديني" 
الباحث الاقتصادي والأكاديمي د.ميثم لعيبي، وعند توجيه السؤال له قال: إن "الإجابة عن هذا السؤال شائكة وتعيدنا إلى أصل وجود شكل النظام في الدستور، من خلال نصوص توفيقية تجمع بين متناقضة (الإسلام- الديمقراطية)، إذ شرعن ذلك (أسلمة مؤسسات الدولة) وما قاد له من نظام (سوق ديني)، وهو بمثابة نظام مشوه ولد في رحم دولة كان نظامها الاقتصادي يتميز بمركزية شديدة وليدة النظام الاشتراكي الديكتاتوري السابق 
وهذا هو النظام المتبع.
ويضيف لعيبي أن "نظام الاقتصاد العراقي لكي يكون فاعلا، فإن أول الخطوات التي علينا البدء بها هي إعادة النظر بمتخذي القرارات الاقتصادية وهذه قضية صارت معقدة في وضعنا الحالي وترتبط أيضا بشكل النظام السياسي القائم على التقاسم الطائفي القومي، إذ بات متخذو القرار الاقتصادي هم أنفسهم أمراء الطوائف والقوميات وتوابعهم، وتم استبعاد النهج القائم على أن يكون السوق هو متخذ القرار (في حالة الحديث عن وجود توجهات دستورية ترمي إلى اتباع النموذج الليبرالي)، كما تم أيضا استبعاد النشاط الحكومي الإنتاجي من قبل كفاءات اقتصادية بعيدة 
عن هذه المحاصصات".
ويتابع "ليس بعيدا عن ذلك، أمسى اتخاذ القرارات الاقتصادية يتم بمعزل عن التنسيق بين القطاعين العام والخاص، وأخذ المنهج المحاصصي وتقاسم مغانم الموارد لا سيما الريعية منها بين الفاعلين الأساسيين وممثليهم في الوزارات وسادة الأقاليم ومجالس المحافظات المتحاصصة هو المنهج الرئيس، بالمقابل ضاعت الأولويات المفترضة في تخصيص الموارد الاقتصادية، إذ إن الصبغة الرئيسة باتت طغيان الجانب الاستهلاكي على الإنفاق الحكومي، الذي يشكل بالمتوسط أكثر من 70 بالمئة من الموازنات ذات الصبغة الريعية، أمام تراجع دور الحكومة الإنتاجي بحيث لم تتجاوز نسب الإنفاق العام الاستثماري حدود 30 بالمئة". 
 وعن هذه النسب التي طرحها لعيبي أكد أن "هذا إنفاق يمثل في جزء منه واجهات للفساد وتمويل المكاتب الاقتصادية للأحزاب الحاكمة ما يعني أن توزيع الريع أصبح يتم بين الاستهلاك والتدوير للأحزاب والفاسدين، في حين يسعى القطاع الخاص الذي لا يساهم إلا بنسب منخفضة من توليد الناتج الإجمالي، إلى الاستحواذ على دورة الدخل والدخول فيها من نقطة التجارة في الاستهلاك، وتدوير فوائض الريع لمصلحته، مقابل الابتعاد عن الإنتاج الحقيقي والتنموي، ما يعني أننا بمواجهة نموذج اقتصادي مشوه ظاهره يتحدث عن السوق وباطنه استهلاكي ريعي فاسد، ويتشارك هذا الاستهلاك والفساد القطاعان العام والخاص".
وعن الحلول لمعالجة ذلك أشار إلى أن هذا يتطلب إعادة النظر في هذه الأسئلة، وبلورة نموذج تنموي يحتاج إلى مواجهات حادة (مستبعدة الحدوث في ظل الظرف السياسي والاجتماعي الراهن)، مواجهات تبعد الجهلة والسراق عن واجهات اتخاذ القرار الاقتصادي، وتقديم نموذج تنموي تشاركي حقيقي بين القطاعين العام والخاص، فإن أي نظام يستند إلى مجموعة مؤشرات وما لم تحقق هذه المؤشرات نسبا معيارية عالية الأداء فإن هذا يعني أن هذا النظام لا يعمل بكفاءة وعدالة، ولا يخفى أن المؤشرات الرئيسية كالنمو في الناتج والدخل والاستثمار والتشغيل والأسعار والتضخم والتوزيع، كلها تسجل تراجعا في الاقتصاد العراقي، خاصة بعد 2014، ما يعني أن شكل النظام الحالي لم يكن ملائما للبيئة العراقية". 
وطالب لعيبي بالبحث عن  نظام بديل، "يضع الأولوية لكيفية تخصيص الموارد الاقتصادية وخاصة الريعية، من خلال البحث عن حوكمة جادة للعابثين بهذا المورد والتصرف به بكفاءة عالية واستخدام معايير عالية للمساءلة والشفافية وسيادة القانون".
 
 
لا هوية للاقتصاد العراقي 
الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم وبصريح العبارة أكدت أن "النظام الاقتصادي في العراق لا هوية له لأنه يدعي الانتقال إلى اقتصاد السوق في وقت ما زال فيه مركزيا، إذ لا وجود للمفاهيم العلمية كما هو موجود في الأشكال الاقتصادية السائدة بالأنظمة الأخرى". 
وأضافت سميسم في حديثها لـ"الصباح"، أن "العراق يردد أنه يطبق اقتصاد السوق لكن هذا لم يحدث، وما كان سائدا لم يكن اشتراكيا فالنظام ما قبل 2003 كان شمولياً". 
وعن وضع الاقتصاد الحالي ذكرت أن "الصلاحيات والقرارات تأتي وفق رأس القمة وهذه الطريقة لا تتيح الحركة للقطاع الخاص إلا بالحيز الذي ترسمه له القيادة الموجودة، فإن عملية صنع القرار لن تكون خادمة لحركة التنمية ولا لحركة مشاركة القطاع الخاص في عملية النشاطات الاقتصادية وبنائها". 
ومن ملخص الحديث أعلاه، تستدل سميسم أن "العراق يعاني من تشوه في شكل النظام، وهذا نتيجة أيضا لسيادة المحاصصة، وهو الأمر الذي قاد إلى ترسيخ الفساد لكي يخدم المحاصصة، وبالتالي فإن هذا الأمر لن يكون بأي طريقة من الطرق ذا شكل علمي، فهناك تشوه هيكلي في الاقتصاد العراقي وهذا ما حصل في العشرين سنة الأخيرة". 
 
اللجوء إلى الاقتصاد الماركنتيلي
في عام 2012 نشر نائب محافظ البنك المركزي الأسبق ومستشار رئيس الوزراء الاقتصادي السابق مظهر محمد صالح دراسة عن الشكل الاقتصادي المفترض اتباعه في العراق. 
وقال صالح: إن "النظام الاقتصادي الماركنتيلي جديد، يُمكن من خلاله اكتشاف العلاقة الوطيدة بين نشاط الدولة الاقتصادي وقطاع الأعمال الخاص للنهوض بالتنمية، ويعيد توصيف العلاقة ويعيد هيكلتها بعيداً عن الغموض الذي تقوده المدارس الليبرالية أو الكلاسيكية في دورة الحياة الاقتصادية لأمم العالم الثالث، ولاسيما أن الأزمة المالية والاقتصادية الدولية الراهنة قد برهنت الدور البالغ للأمم الماركنتيلية الجديدة والفكر الماركنتيلي في استعادة الاستقرار والنمو إلى الاقتصاد العالمي". 
وأضاف أن " الماركنتيليين يعتقدون بأهمية الدور الاقتصادي النشط للدولة بغية تحفيز تجارة الصادرات وعدم تشجيع استيراد السلع النهائية وتشييد احتكارات تجارية إن صح التعبير فهذه يمكن أن تساعد على تقوية قطاع الأعمال وقوة الحكومة في آن واحد ولكن تحت مبدأ أينما تصل الرايات تصل التجارة وأن الراية والتجارة تتحركان معا، كما  يلحظ أن هذه الفكرة ما زالت باقية إلى يومنا الحاضر وتعتمدها القوة التصديرية العظمى الصاعدة أو الجيوبولتك الجديد".
 
تشوه الاقتصاد: ما الحلول؟ 
الأستاذ في الاقتصاد العراقي د.أحمد صبيح يقول في حديثه لـ"الصباح": إن "الاقتصاد العراقي يعد من الاقتصادات المشوهة التي تفتقر للهوية المعيارية التي يمكن الاستدلال من خلالها على تصنيف الاقتصاد، فقد أخذ بعض خصائص الاشتراكية من خلال تملكه للعديد من وسائل الإنتاج، فضلا عن إدارتها، وكذلك هيمنة القطاع النفطي على الإيرادات وتضاؤل مساهمة الضرائب في تكوين موارده، ومن جهة أخرى أخذ من خصائص الرأسمالية من خلال منحه الفرص للقطاع الخاص للعمل والإنتاج". 
وتابع صبيح أن "هذا الجانب لم يفلح في إدارة وتحسين وتطوير القطاعات الاقتصادية بسبب الاختلالات والتشوهات التي يعانيها الاقتصاد، ومن جهة ثالثة أخذ خصائص الأنظمة المختلطة بحكم وجود تشابك قطاعي بين القطاعين الرئيسين (العام والخاص) وبذات الوقت لم ينجح هذا الاشتراك في التأسيس لهوية اقتصادية للبلاد ".
وعن الاسم الأقرب للنظام الاقتصادي العراقي، أكد صبيح إنه بالإمكان أن نقترب من تسمية الاقتصاد بالريعية النفطية، فتلك الحالة التي رسخت الاعتماد على الإيرادات النفطية في تحقيق قوة تكاسلية رسخت تخلف أدوات ووسائل الإنتاج وأعطت فرصا كبرى للمنتجين الأجانب باستغلال السوق العراقية المتولدة عن الطلب المستند إلى الموارد النفطية المتزايدة، لتعمق من التشوه والتخلف الاقتصادي". 
وبالتأكيد فإن هذا التشخيص للمشكلات الاقتصادية بحاجة إلى حلول، إذ اقترح صبيح "أن يستغل العراق موارده النفطية في المساهمة في خلق فرص تنموية، وأن يلعب فيها القطاع الخاص أدوارا ريادية تقلل من الهدر في العملات الأجنبية المتوجهة نحو الاستيراد وتعويضها بإنتاج سلعي كفوء يحقق فرصا للتنمية ويسهم في تخفيض مستويات البطالة والفقر، فضلا عن تخفيض الاعتماد على الريع النفطي الذي يرتبط بعوامل خارجية أكثر 
من عوامله الداخلية".