الإنفاق السائب وبوصلة التنمية

اقتصادية 2022/06/01
...

 د. حامد رحيم
 
شهد الاقتصاد العراقي ظواهر وممارسات سلبيَّة عديدة أعاقت النهوض الاقتصادي المفترض في ظل الإمكانات الكبير والوفرة الماليَّة غير المسبوقة التي تحققت بعد عام التغيير السياسي، والانفاق العام واحد 
منها.
نظريَّاً هناك جدل اقتصادي قديم حديث عن دور الحكومة الأمثل في النشاط الاقتصادي بين معارض ومؤيّد لتوسعته لأسباب ومبررات يطول شرحها، وللمدرسة التنمويَّة الآسيويَّة انحياز تجاه تعظيم ذلك الدور، للتأثير على مسارات النشاط الاقتصادي وايجاد مقدمات الانتقال من مؤثرات التخلف الاقتصادي الجاثمة في مسار السياسات الاقتصادية الى التصحيح الهيكلي في السياسات، وهذا المنحى المدرسي الذي أعاد توصيف التخطيط الاقتصادي من (إدارة النشاط الى الـتأثير في النشاط) وهنا مكمن الإضافة المعرفيَّة في الفكر الاقتصادي لهذه المدرسة، وماليزيا وسنغافورة مثالان على ذلك، وبما أنَّ الانفاق الحكومي هو المؤشر الأهم لحجم الحكومة في الاقتصاد، فقد شهد هذا المؤشر تناميا مستمرا لدى تلك الدول واقترن بتحسّن المؤشرات التنمويَّة لديهم.
ونشير هنا الى أنَّ النجاح في التوسعة الانتاجيَّة للاقتصاد نتيجة لنجاح خطط التنمية ستكون هي المتغيّر المفسّر في ما بعد للزيادة الحاصلة في نسبة الانفاق الحكومي بسبب نمو الدخل وفقا لقانون (فاجنر)، ويُعزى ذلك الى ثلاثة محاور هي (الأنشطة الاجتماعيَّة للدولة والأنشطة الإداريَّة ومستلزمات تحقيق الرفاه الاجتماعي).
والسؤال هنا، في العراق أيضا هناك تنامٍ كبير في الانفاق الحكومي، فلماذا هذا التباين في الأثر الاقتصادي؟، للإجابة، لا بدَّ أن نفهم أنَّ البعد الكمي للانفاق يعطي صورة من جانب واحد فقط، ومن ثم ضرورة معرفة الأبعاد الأخرى غير الكميَّة، بمعنى أن تنمي إنفاقك الحكومي شيء وأن تحدد الأهداف والغايات المترتبة على تلك الأهداف في إطار تنمية إنفاقك الحكومي شيء آخر، وهذا ما يُفسِّر ظاهرة تباين الأثر.
إنَّ العراق الذي شهد نموا في نسبة الانفاق الحكومي الى الناتج، ولم يوفق في تحقيق أي من مقدمات التنمية الاقتصاديَّة والسبب غياب التخطيط التنموي عن ذهنيَّة الأداء الحكومي المتعاقب منذ العام 2003 الى اليوم، ومن ثم زيادة الانفاق شكلت عبئا تشغيليا كبيرا ينطبق على البعد الثاني لقانون فاجنر (الأنشطة الإداريَّة) من دون البعدين الآخرين كمفسّر لزيادة النمو في الإنفاق وهنا الفشل التنموي .
ولتعميق الوصف للظاهرة أكثر، فإنَّ حجم الانفاق أصبح متغيرا تابعا لحجم الايرادات النفطيَّة بشكل أساس، وهنا خلل هيكلي إذ لا بدَّ من أن تكون الخطط التنمويَّة هي المتغيّر الموضح لحجم الانفاق بتأثير أكبر من حجم الايرادات، وهذا مكمن الفلسفة الكينزية في إحداث الأثر التوسعي في النشاط عبر ايجاد (العجز المقصود) اي تعمد رفع حجم الانفاق في ظل قصور الايرادات عن تغطيته، لان الاثر العلاجي هو الأهم، وهنا المقاربة إذ ينبغي ان تكون أهداف وغايات الانفاق تنموية وهي المحددة بشكل أساس لحجم الانفاق في ظل الضرورة القصوى للتنمية الاقتصادية، وهذا ما لم يحصل لدينا، إذ إن الوفرة في الايرادات النفطيَّة ولدت إنفاقا متزايدا من دون تخطيط تنموي. وأخيرا لايخفى حجم الضعف في الضبط المالي وغياب الشفافيَّة واستمكان الفساد والهدر وغيرها.
النتيجة الوصفيَّة أنَّ الانفاق (سائب) لأنَّه بلا هدف تغيري ولا غاية تنمويَّة وأسير لحجم الايرادات بسبب غياب التخطيط التنموي ومكشوف أمام الفساد والهدر.