الرمان.. سر شغف الشرق أوسطيين به

بانوراما 2022/06/01
...

 عندليب فرازي صابر
 ترجمة: ليندا أدور
أمامنا مشهد لأيادٍ وهي تقطر عصيراً باللون الأحمر القاني بعد تقشير وفتح ثمرة ناضجة من فاكهة {الرمان}، بذورها التي بدت كأحجار كريمة تخبئ داخلها عصارة هي مزيج بين الحلو والحامض، قد امتلأ بها صحن لتؤكل بالملعقة، فحبة واحدة منها لا تكفي، ذلك هو المشهد المألوف في الكثير من بيوتات الشرق الأوسط. 
 
لا يعد الرمان غنياً لنكهته فحسب، بل لتأريخه الثقافي كذلك، إذ يزعم بعض المؤرخين الدينيين بأنها الفاكهة المحرمة التي أغوت آدم وحواء في جنة عدن وليس التفاح، فمعنى اسمها باللاتينية هو التفاح الكثير البذور او الحُبيبي. 
 
رمزية وطقوس
بدأت قصة الرمان مع بداية الحضارات المدونة، فقد كان من أقدم الثمار التي زرعها الإنسان قبل نحو خمسة آلاف عام، إذ كان يزرع في منطقة ما صارت تعرف اليوم بإيران والعراق، لتنتشر بعدها زراعته شرقا وصولا إلى الهند وغربا حتى مصر وشمالا لما بات يعرف اليوم بتركيا، كما يمكن العثور على أحد أقارب هذه الثمرة بجزيرة سقطرى، جنوب شرقي اليمن، الموضع المعروف بتنوعه البايولوجي الفريد. 
تطورت رمزية وطقوس الرمان التي لا يزال البعض منها موجودا حتى يومنا هذا، فقد آمن قدماء الفرس بأن بذوره تمثل الخصوبة ودورة الولادة الجديدة، وهو الاعتقاد ذاته الذي شاركهم فيه معاصروهم من الإغريق والمصريين، إذ عثر في مقبرة توت عنخ آمون على مزهريات على شكل رمان.  
في أجزاء من اليونان وتركيا الحديثة، ما زال هناك تقليد متبع هو أن تلقي العروس الجديدة ثمرات من فاكهة الرمان الكاملة أمام منزلها الجديد، لتمثل أعداد بذورها المتناثرة، عدد الأطفال الذين سيرزق بهم العروسان. 
ففي بلاد ما بين النهرين، ساوى الأكديون بين جف الثمرة (زائدة تنشأ في بعض بذور النباتات من خلايا القصرة حول السرة وتغلف البذرة كليا أو جزئيا كالبسباسة في ثمرة جوز الطيب وحب الهيل- المترجمة) الحمراء القرمزية والخصوبة، إذ كانت تقدم لتماثيل الإلهة عشتار (إلهة الحب والتكاثر والخصب). أما البابليون، فمنحوا الفاكهة المزهرة الكثير من التبجيل وبرزت في جنائن بابل المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، ولأنها كانت تمثل الحياة الأبدية، فليس من المستغرب أن يعد الرمان، في يومنا هذا، غذاء خارقاً مقاوماً للشيخوخة. 
 
قوة وخلود
يحكى أن زركسيس، ملك بلاد فارس (ويعرف بالملك خشايارشا الأول)، الذي حكم في القرن الخامس قبل الميلاد، حشد جيشاً من المحاربين حملوا رماحا كانت تعلوها حبات رمان مصنوعة من الفضة والذهب بدلا من نصول حادة، كرمز للقوة والخلود بوجه الإغريق. 
زُرع الرمان لأول مرة في بساتين يزد، وسط إيران، موطن الديانة الزرادشتية حيث تستخدم الفاكهة كثيرا في طقوسها وشعائرها الدينية. واليوم، ما زال الرمان يستخدم في المنطقة ضمن احتفالات بلوغ سن الرشد المعروفة بـ "نافجوت" بين أتباع هذه الديانة، إذ يقوم فيها الشخص المحتفى به، بمضغ ورقة من شجرة الرمان للحصول على خواصها الطبية، وصلتها بطول العمر، بعد أن يأخذ حمام التطهير.
 ومن ضمن التقاليد، كان يعطى رشفات من عصير الرمان لمن هم على شفا الموت، على أمل الشفاء ومنحهم حياة أطول، كما كانت توضع بعض من بذور هذه الفاكهة في فم المتوفى، وهذه الطقوس كان قد مارسها السومريون أيضا، الذين عاشوا في بلاد الرافدين المجاورة، إذ نظروا إلى بذور الرمان على أنها مقدسة، من خلال منحهم إياها للمتوفى، اعتقادا منهم بأنها ستمنحه الخلود.
ويبدو أن ذلك كان موضوعا متكررا في العالم القديم، فقد تم اكتشاف صندوق خشبي على شكل فاكهة رمان داخل حفريات أثرية لأحد مقابر الهكسوس في منطقة أريحا (غرب فلسطين)، التي تضم واحدة من أولى المدن في العالم. 
وكان الصندوق يضم بذور رمان متفحمة تعود لنحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ربما تكون معدّة للمتوفى ليحملها معه إلى الحياة المقبلة. 
في حطام سفينة اولوبورون، (وهي سفينة نقل بضائع غرقت قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا واكتشفها غواصون من جامعي الإسفنج في العام 1982 - المترجمة) التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عثر علماء الآثار على بذور فاكهة الرمان وقشوره، إلى جانب العاج وبيض النعام وغيرها من المواد التي تدل على الثراء، ما يعني أن الرمان الذي أصبح عنصرا رئيسا في الذائقة الشرق أوسطية، ربما كان في مرحلة ما مقتصرا على النخبة المختارة فقط.
 
فاكهة الموتى
أما في الأساطير الإغريقية، كان يطلق على الرمان اسم "فاكهة الموتى"، وكان يقال أنها تُنبت من دم أدونيس، لكن يبدو أن الفاكهة هنا بدأت تتجاوز عالم الأحياء والأموات، فقد كانت من أشهر ما قدمه حادس (هاديس) إلى بيرسيفوني (ابنة ديميتر إلهة الزراعة)، عندما وقع حادس، إله الموتى، في حب بيرسيفوني، ابنة ديميتر من زيوس، من النظرة الأولى، فقام بخطفها واصطحبها معه إلى العالم السفلي حيث كان ملكا. فبدأت ديميتر، إلهة الحصاد، تجوب الأرض بحثا عنها، وأدى حزنها الشديد إلى توقف نمو المحاصيل وتسبب ذلك بحدوث أشهر الشتاء، فما كان من ديميتر الا أن تتوسل هاديس ليعيد لها ابنتها، فوافق لكن جزئيا، لكنه  قبل أن يعيدها، أطعم بيرسيفوني ست حبات من الرمان، لتعود إلى الأرض لمدة نصف عام، وتمضي النصف المتبقي معه.
في التراث الإسلامي يذكر القرآن الكريم الرمان على أنه إحدى ثمار الجنة، بالرغم من أن فقهاء الإسلام لطالما اختلفوا كثيرا حول ما إذا كان هذا الوصف رمزيا أو حرفيا. وفقاً لبعض التقارير العلمية، فقد عثر التجار المسلمون، الذين كانوا يسافرون إلى إسبانيا في القرن الثامن، على جماعة يهودية كانت قد استقرت في منطقة، تعمل بزراعة فاكهة بلون الياقوت الأحمر، وأطلق عليها التجار اسم "غرناطة اليهود" أي "رمان اليهود" والذي تم اختصاره فيما بعد إلى "غرناطة". 
 
نِعم وفوائد
في الكتاب المقدس، ورد ذكر فاكهة الرمان عندما توصف الزخارف على أعمدة المعبد الأول الذي بناه النبي سليمان، في القرن العاشر قبل الميلاد، والذي دمر أثناء السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد الذي يعتقد أن أعمدته قد نهبت مذّاك. 
يتم تناول الرمان أو "ريمون" كما يلفظ بالعبرية، في احتفالات رأس السنة الجديدة، إذ ساد الاعتقاد لدى قدامى اليهود بأن كل ثمرة رمان تضم 613 بذرة، تساوي عدد الوصايا التي وردت في "التوراة".  
في المسيحية، غالبا ما صوّر فنانو عصر النهضة، الطفل يسوع في حضن أمه العذراء مريم، وهو يمسك بثمرة رمان، التي كانت ترمز هذه المرة إلى الحياة الجديدة والأمل للبشرية، وقد ظهر هذا الترابط جليا في عدد من الأعمال الفنية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. يشير بعض المنظرين إلى أن هذه الفاكهة أصبحت رمزا للكنيسة، إذ تمثل بذورها وحدة وتماسك جماعة المؤمنين، وقد اقترن لونها الأحمر الدموي بدم المسيح، بينما كانت قشرتها الخارجية الخشنة التي تغلف ثمرة تنبض بالحياة واللون، ينظر لها على أنها رمز للتواضع.
تذكر العادات والتقاليد التركية، أن عثمان غازي، مؤسس الدولة العثمانية، أحب الثمرة شديدة القدرة على الاحتمال، إذ غالبا ما تُظهر الأعمال والحرف اليدوية المحلية وديكورات المنازل الثمرة كنوع من التقدير لعثمان. 
وفي إيران، موطن فاكهة الرمان المفترض، هناك اعتقاد متجذر في التصوف الإسلامي بأن تناولها يمنح الشخص نعما روحية، فضلا عن فوائدها الصحية، إذ يقام سنويا مهرجان تشهده العديد من مدن وقرى البلاد بشهر تشرين الثاني، وهو موسم نضج وحصاد فاكهة الرمان والذي يطلق عليه اسم "جشن أنار Jashn Anar أي "مهرجان الرمان". 
أما الشاعر الفارسي قاسم فردوسي مؤلف الملحمة الإيرانية "الشاهنامه" فقد ربط أيضا بين الرمان والجمال. فمن خلال وصفه للأميرة الأسطورية "رودبا" في الشاهنامه، كتب أن "فمها هو فاكهة رمان وردية، ورموشها داكنة كجناح الغراب، فإذا كنت تبحث عن قمر لامع، ستجده في وجهها".
 
*موقع ميدل إيست آي