كيف ألهم بيكاسو العالم العربي؟

بانوراما 2022/06/11
...

  ترجمة: مي اسماعيل
 
ما هي الروابط بين "بابلو بيكاسو" والفنانين المعاصرين عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ هذا التساؤل طرحه معهد العالم العربي بمدينة توركوين الفرنسية (قرب ليل)، عبر معرض جمع سبعين عملاً فنيّاً من الجزائر إلى سوريا، بعضها لم يعرض سابقا في أوروبا. تحت عنوان "بيكاسو والفن العربي الطليعي"، ينطلق المعرض في رحلة يكشف فيها الانبهار المتبادل بين الرسام الإسباني ومعاصريه من العالم العربي.
قضى بيكاسو (المولود في ملقة 1881) معظم حياته وهو بالغ في فرنسا، وصار من أكثر الفنانين تأثيراً في القرن العشرين، وإليه يعود فضل المشاركة بتأسيس الحركة التكعيبيّة. 
لم يسافر بيكاسو كثيراً، ولم يزر الشرق الأوسط قط، لكنّه تأثر بالفن من أنحاء العالم، ولا سيما من القارة الأفريقيّة. يقول "ماريو شويري" أمين المعرض: "وصف بيكاسو نفسه بأنّه شرقي، موضحاً أنه كان يمتلك صلة بالثقافة العربيّة عبر أصوله الأندلسيّة جنوب إسبانيا. 
يلاحظ المشاهد في المعرض تأثيراً يشبه وجود المرايا، إذ تبدو التشابهات بين بعض اللوحات (من حيث الأسلوب والروحيّة) مذهلة، وهي فرصة لتسليط الضوء على فنانين بقوا في الظل طويلاً. 
يستكشف المعرض (ما وراء التأثير الملحوظ للتكعيبية والتجريد) موضوعات التحرر ومناهضة الاستعمار والتطلع إلى عالم أفضل وأكثر عدلاً. يمضي شويري قائلاً: "كان بيكاسو واعداً بأعمال فنيَّة عالميَّة، من دون التسلسل الهرمي للمكان أو الجغرافيا أو الأسلوب". موضحاً أن بيكاسو تطلع إلى علم الآثار وبلاد ما بين النهرين والفنون القديمة ومصر بقدر ما فعل الفنانون المحليون ذاتهم فيها. 
يأتي الفنانون الــ 32 في المعرض من الجزائر ومصر والعراق ولبنان والمغرب وفلسطين والسودان وسوريا وتونس. قضى الكثير منهم وقتا بالدراسة في فرنسا وأوروبا، وأخذوا معهم إلى أوطانهم ما هو أكثر من مجرد التقنيات، بل وتقاطعت سبل بعضهم مع بيكاسو وتبادلوا معه وجهات النظر.. رأوا في أعمال بيكاسو أنموذجا لخلق "عالم جديد"، بطريقة جديدة للتعبير عن الهويّة الوطنيّة والتحرر من التقاليد وطرح رسالة سياسيّة.
رغم أنّه لم ينحز علنيّا إلى جانب خلال الحروب العالميّة ولم ينخرط في العسكريّة، لكن بيكاسو كان قريباً من فناني الحركة السرياليّة، مثل "بول ايلوار" الذي كان (منذ العشرينات) يحتج بنشاط ضد احتلال فرنسا، وانتهى به المطاف بالانضمام الى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1944. لكن فنّه هو الذي تحدث بصوت أعلى من أي كلمات، مقدما لفناني الشرق الأوسط أنموذجا خلّاقا للتعبير السياسي. كانت لوحة بيكاسو الملحميَّة "جورنيكا-Guernica" (1937) واحدة من النقاط المحوريَّة في ذلك الحوار الفني، والتي جسّدت قصف القوات الألمانيّة والايطاليّة للمدنيين خلال الحرب الأهليَّة الاسبانيَّة. في مصر نشرت "مجموعة الفن والحريَّة" عام 1938 بياناً فنيّاً بعنوان "يعيش الفن المنحط"، وعلى غلافه الخارجي لوحة جورنيكا. كما ظهر منشور مماثل في العراق عام 1951 عن "مجموعة بغداد"، مشيداً ببيكاسو لكونه واحداً من "الشخوص الأساسية في الفن الحديث". وهناك منشور مماثل بسوريا عام 1962. كتب الفنان العراقي "ضياء العزاوي"، الذي ظهرت أعماله بالمعرض: "خلق بيكاسو بواسطة جورنيكا نقطة تحوّل في فنّي أنا، ولتاريخ الفن كله، إذ استطاع ابتكار رموز بسيطة ومعبّرة تاريخياً وعالمياً، وأسلوب يتوافق مع قيمنا الإنسانيّة ومبادئنا، برفض جميع أشكال العنف ضد المدنيين؛ والذي لا يمكن لأي أيدولوجية أو نظام أن يبرره". صوّرت بعض أعمال العزاوي ما واجهه الفلسطينيون في لبنان خلال عقود السبعينات والثمانينات. كما ظهرت رموز بيكاسو (من جورنيكا)؛ خاصة الحصان ذا اللسان المدبَّب والمايناطور في لوحات الفنان السوري "خزيمة علواني". 
العديد من الفنانين الذين عرضت أعمالهم كانوا يرون في فن بيكاسو تعبيراً أخلاقياً، لذا استعاروا منه الرموز التي يمكنها التعبير عن غضبهم واشمئزازهم من الفظائع التي قامت بها أنظمة مختلفة عبر العصور. رسم الفنان المصري "سمير رافي" (الذي التقى ببيكاسو في باريس)أيضاً لوحات عن التمرد ضد الحرب والاستبداد. وكان قد شارك في صباه مع فنانين سورياليين آخرين برفض الحكم الاستبدادي، مستخدِمين الفن سلاحاً. ذهب رافي لاحقاً إلى الجزائر وانضم الى جبهة التحرير الوطني، قبل العودة إلى باريس.
يمكن ملاحظة علاقة بيكاسو بالجزائر في دراسات قام بها بصدد خط فني بدأه عام 1954 بعنوان "نساء الجزائر"، عند بدء الحرب الجزائرية، وبذا ارتبط الفن والاحداث السياسية في ذلك الحين. تعود أعمال بيكاسو الفنية مرة أخرى إلى القضايا الثورية، ممثلة بصورة الناشطة الجزائرية من جبهة التحرير الوطني "جميلة بوباشا"، التي جرى اعتقالها عام 1960 بتهمة "النشاط الإرهابي" ضد الحكم الاستعماري الفرنسي، ودافعت عنها المحامية "جيزيل حليمي". لم تتردد حليمي بالكتابة إلى بيكاسو طالبة منه اللوحة لتكون عوناً في تسديد الأجور القانونيّة، وقد ظهرت في الغلاف الداخلي لكتاب ألفته مع "سيمون دي بوفار" عام 1962. ظهرت لوحات عن النساء بشكل بارز في المعرض بصفتهن مصدراً لإلهام لا ينتهي ونقيضاً للحرب والدمار، إذ يمثلن الحياة والوفرة. كانت النساء كما ترى (فرانسواز كوهين" مديرة متحف توركوين للفنون) حجر الزاوية لأسلوب بيكاسو الفني الطليعي، ليمثلن التقاليد والإنسان بأبسط صيغة في آنٍ واحد؛ مع مسار التطور نحو التكعيبيَّة. 
يقول وزير الثقافة الفرنسي السابق "جاك لانغ": "من المدهش أن نرى قلة تقديم فناني العالم العربي حتى الآن، وهؤلاء فنانون موهوبون هم غالبا الطليعة الفنية في أوطانهم وعالميا. هذه المقارنة مع بيكاسو تُظهِر قوة العلاقة بينه وبين الفنانين العرب، وكأنّها أخوّة 
عمليّا".  
يستمر معرض "بيكاسو والفن العربي الطليعي" بمدينة توركوين حتى العاشر من تموز المقبل، ويُقام في معهد العالم العربي بباريس عام 2024. (أوليا هورتون- موقع راديو فرنسا الدولي -RFI).