مجلة عالميَّة أثبتت حضوراً متميزاً

بانوراما 2023/01/09
...

  ترجمة واعداد: مي اسماعيل

كان عام 2022 هو العام المئة من مسيرة مجلة “ريدرز دايجست” الأميركية؛ والتي مرت بتاريخ حافل متنوع ووثقت أحداثا وآدابا وفنونا متميزة في تاريخها. فمنذ بدء صدورها أوائل العام 1922 كان كل عدد فيها غنيا بمعلومات ومواضيع ملهمة. 

اليوم تصدر المجلة بثلاث وعشرين طبعة في 41 دولة، وما زالت واحدة من الأكثر قراءة عالميا.

قال الأميركي “دي ويت والاس” قبيل إصدار “مجلته الصغيرة”: “سيكون للدايجست رسالة واحدة: أن تثير إهتمام القارىء وتوسع آفاقه، وتزيد تقديره للأشياء والأشخاص، وأن توسع قدرة الناس على التفاعل الممتع مع الآخرين؛ لتسهيل عملية التكيف مع هذا العالم”. وقد مرت مجلة “ريدرز دايجست” بمحطات متنوعة في مسارها، ونشرت الكثير من المواضيع والمقالات المؤثرة.. ومن مسيرتها كانت الوقفات التالية:


اطار زمني

العدد الأول: نشر “دي ويت والاس” وزوجته “لايلا والاس” خمسة آلاف نسخة عددا أولا من “مجلتهما الصغيرة” في نيويورك؛ التي تألفت من 64 صفحة و31 موضوعا؛ جميعها مأخوذة بشكل مختصر من مطبوعات اخرى. وفيها ظهر في العام التالي أول موضوعات محاربة التبغ تحت عنوان “هل يؤذي التبغ جسم الانسان؟”. بحلول سنة 1929 فاق عدد المشتركين بالمجلة المئتي ألف، وأصبحت متوفرة في أكشاك بيع الصحف. طلبت المجلة سنة 1930 مساهمات القراء ضمن أبوابها الاعتيادية؛ خاصة في مجال الفكاهة. ثم نُشِر أول موضوع خاص بالمجلة سنة 1933 بعنوان: “الجنون- التهديد الحديث” بقلم “هنري مورتون روبنسون”، وارتفع عدد صفحاتها الى 128 خلال العام التالي. وبات مقال “ثم.. الموت المفاجىء” الخاص بالدايجست؛ أول مقالة أصلية للخدمة العامة؛ الأكثر تأثيرا على الرأي العام والأوسع قراءة على الاطلاق؛ كما أيدت ذلك مجلة “ذا نيويوركر” سنة 1935. ارتفع عدد نسخ التوزيع الى مليوني نسخة بحلول العام 1936، وأصبح عدد العاملين الى 32. وهنا قام الزوجان بتأسيس “مؤسسة ريدرز دايجست” لخدمة التعليم والصحافة ومنظمات الشباب والتفهّم العالمي. وكانت النسخة البريطانية من المجلة الأولى دوليا قد صدرت في العام 1938. وجاء العام التالي لتختار السيدة لايلا علامة “بيغاسوس” (= الحصان المجنحّ. المترجمة) ليصير شعارا للمجلة، وقارب توزيعها الثلاثة ملايين، ونشرت لأول مرة صورة مرسومة بلونين. 

وأصبحت الاسبانية هي اللغة الأجنبية الاولى التي صدرت موجهة لأميركا اللاتينية عام 1940. وكان اختيار الموضوعات والترجمة يجري في نيويورك فيما تتولى شيكاغو مهمة الطباعة؛ ثم إنتقلت عملية الطباعة الاقليمية الى العاصمة الكوبية هافانا في العام 1944. أما نسخة اللغة البرتغالية فقد صدرت أول مرة بحلول العام 1942، وكانت الترجمة والطباعة تتم في الولايات المتحدة ثم تُشحن للتوزيع إلى البرتغال والبرازيل. أما النسخة العربية لمجلة دايجست فقد ظهرت في مصر تحت عنوان “المختار” وباللغة العربية في العام 1943، وصدرت النسخة الفنلندية سنة 1945؛ بينما كان العالم لا يزال يعيش اجواء الحرب العالمية الثانية؛ إذ تم توزيع نسخها كلها (خمسين ألف نسخة) خلال اسبوع. 


عالم ما بعد الحرب

تسارع توسع انتشار ريدرز دايجست دوليا بعد الحرب؛ وسط عالم كان افراده متعطشين للمعلومات. وانطلقت النسخ الدنماركية واليابانية والاسترالية، وتلتها النرويجية والفرنسية (وتلك الموجهة بالفرنسية لكل من- بلجيكا، سويسرا، وكندا) في العام 1947. ثم باتت المجلة تصدر صورا بأربعة ألوان مع تزايد الاصدارات الدولية بلغات اخرى خلال العام 1948، وبدأت تستقطب كتّابا ذوي اسماء كبيرة، كان منهم فائزون بجائزة “بوليتزر”، ليكونا من بين فريق التحرير. وقادت مقالاتها التي ظهرت سنة 1952 عن أضرار التدخين وربطها بمرض السرطان الى أكبر انخفاض في معدلات التدخين منذ الكساد الكبير الذي شهدته ثلاثينات القرن العشرين. كما فاقت أرقام التوزيع العشرة ملايين نسخة/ شهريا بحلول بحلول العام 1955، وكان سعر العدد لا يزال خمسة وعشرين سنتا؛ كما كانت عليه منذ عام الصدور الأول 1922. وهنا سألت المجلة قراء الولايات المتحدة ما اذا كانوا يفضلون زيادة سعر العدد أم يقبلون دخول الاعلانات. إذ صوتت الاغلبية العظمى على قبول الاعلانات؛ علما انها كانت موجودة في النسخ الدولية منذ البداية. وتابع التوزيع ارتفاعه ليصل الى 16 مليون نسخة في الولايات المتحدة ونحو 28 مليونا للنسخ الدولية خلال العام 1967. وقد لاقى موضوع “التقرير الذي صدم الأمة  الأميركية” المناهض للأدب الاباحي سنة 1971 طلبا بإعادة الطبع والنشر بما فاق 25 مليون نسخة؛ وهو أعلى رقم على الاطلاق! 

تقاعد الزوجان والاس سنة 1973، بعدما دخلا سن الثمانينيات.. وواصلت المجلة استمراريتها. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي مطلع العام 1991 أصبحت النسخة الروسية هي النسخة الأربعين باللغة السادسة عشر، وانطلقت الى توزيع متسارع بين دول الاتحاد السابقة. وبعد ثلاث سنوات طُبعت النسخة رقم عشرة مليارات في الولايات المتحدة. 

بحلو العام 1996، تبنت مجلة دايجست تصميما جديدا؛ شمل التخلي عن تقليدها السابق بوضع فهرس المحتويات على الغلاف الخارجي. وأطلقت تقليد اختيار “شخصية العام الأوروبية” للإحتفال بالأفراد الذين يساعدون في تغيير حياة الآخرين.. كما أُطلقت النسخة الصينية في العام 2008.  


رجل وراء المجلة

عاش والاس وزوجته لايلا قصة مدهشة عندما كتبا خلالها قصة نجاح عالمي من خلال “ريدرز دايجست”.. كان والاس رجلا هادئا قليل الحديث عموميا، يقول ما يريده عبر المجلة التي أصبحت أشهر منشور عالمي؛ أوصل عبر صفحاتها قصصا ومعلومات ونكات لعدد من القراء فاق ما فعله اي رجل آخر.  

أعدّ والاس ولايلا نسخ الطبعة الاولى من مجلتهم الصغيرة للشحن في قبو احدى مباني “غرينتش فيليج” قرب نيويورك، مستعينين بعمال مؤقتين لإتمام العمل. وتم إرسال النسخ بالبريد الى المشتركين؛ وتلت ذلك أيام من الانتظار القلق ليتلقوا صدى عملهم ومدى ترحيب العالم به. كان “والي” (كما اعتاد الناس ان يدعوه) رجلا طويل القامة، لا يعتبر شخصا ناجحا بالنسبة للاسرة؛ وكان والده باحثا في اللغة اليونانية ورئيس جامعة. ترك والاس الجامعة متنقلا من عمل الى آخر، وبعدما فُصِل من احدى مؤسسات بيتسبيرغ؛ عاد الى نيويورك ليُصدر مجلة من منزله، وكان حينها في الثانية والثلاثين من عمره. أما لايلا، التي كانت عمرها أيضا يشق طريق السنة الثانية والثلاثين، فهي شابة سمراء زرقاء العينين، صغيرة القد، عملت مدرسة للغة الانكليزية قبل الحرب. 

كان حجم المجلة الصغير (حجم الجيب) أول دواعي لفت النظر اليها؛ مما يشير الى ان مواضيعها مختصرة ومكثفة. أما المحتويات فشملت مواضيع تعريفية؛ دون روايات ولا صور ولا ألوان أو اعلانات. راهن محترفو الصحافة على فشل مجلة دايجست، وكافح والاس المبتدىء لمدة سنتين من أجل نجاه مسعاه، طبعا بمساعدة عروسه وبضعة آلاف من الدولارات كان قد اقترضها. كما راهن على تقديم المعلومات للقارىء بصيغة مبوبة مراهنا على سرعة الايصال، وسط عالم أغرق المتلقي على نحو متسارع بسيل من التطورات والمتغيرات والمعلومات؛ من دون تمييز بين الغث والسمين. استقى والاس معلوماته عن التسويق من باعة متجولين وأبحاث وتجارب شخصية؛ إذ اعتاد العمل منذ شبابه بائعا للخرائط من باب الى باب (كان ذلك في العام 1911). فقدم مجلة جاءت في منتصف الطريق بين الصحيفة والكتاب؛ طرحت وقتا لتمييز المهم وتطوير مواضيع أساسية، مع استمرار التعامل مع الجديد. واعتاد والاس على تلخيص المواضيع التي يريد نشرها وتقديمها في أقل ما يمكن من السطور؛ لكنها لا تغفل أهم الجوانب. ولم يكن عالم الأعمال بالنسبة له مجرد وسيلة لكسب العيش؛ بل نوعا مختلفا من النظام التعليمي. حينما إقترب حجم التوزيع من مليوني نسخة بحلول العام 1936، وبعد جهود غير منقطعة من الزوجين؛ بلغت الارباح السنوية نحو 418 ألف دولار؛ وأدرك العالم ان الرجل لم يكن محررا خلاقا فحسب؛ بل بارعا اقتصاديا أيضا. وبلغت تقديرات ثروته نحو نصف مليار دولار بحلول العام 1980. وعلى الرغم من وجود اسمها في قائمة التحرير (قبل اسم زوجها)؛ اهتمت لايلا بدعم الفنون والثقافة؛ وهو أمر يوازي قيمة الكلمات والأفكار. 

لم ينجب الزوجان أطفالا؛ لكنهما اهتما بالعطاء؛ إذ قدما ملايين الدولارات للمدارس وقاما بإنشاء صندوق لدعم طلاب الصحافة. كما تبرعا بمليوني دولار لدعم قاعة الدوريات ضمن مكتبة نيويورك العامة؛ حيث كان والاس قد جلس يوما لينسخ مواضيعه باليد، وحملت القاعة إسمه ولا زالت كذلك. كان هذا الرجل يوزع ارباح منشوراته على كادر المجلة؛ وعزز إمتنانهم وعيه بأهمية نفوذه؛ فاستمر بذلك التقليد حتى وفاته. 

حافظ مؤسس مجلة ريدرز دايجست ورئيس تحريرها لوقت طويل “دي ويت والاس” على اندفاعه وانهماكه بالعمل حتى وفاته سنة 1981 عن 91 عاما. وكان حريصا على حبه للتعلّم والسؤال عن كل ما لا يعرفه. ومع حلول نهاية كل عام ميلادي، كان معتادا على كتابة رسائل يدوية وشخصية على بطاقات العيد الى الكُتاّب والوكلاء والناشرين وبعض افراد الكادر؛ على سبيل التهنئة عن اي انجاز فردي خلال السنة المنصرمة، واستمر بذلك حتى وفاته. أما زوجته لايلا فقد توفيت بعده بثلاث سنوات عن 94 عاما.

عن موقع “ريدرز دايجست”