أوكرانيا ساحة اختبار للابتكارات العسكريَّة الغربيَّة

بانوراما 2023/02/05
...



كايتي بو ليلز وأورين ليبرمان


ترجمة: مي اسماعيل 




ولأنه تطبيق رقمي وليس جزءً من الأجهزة الصلبة؛ أصبح من السهل تحديثه وترقيته بسرعة، ومتاحا لمجموعة كبيرة من العسكريين. ويقول المسؤولون الأميركان المُطلعين على التطبيق انه كان ذا فعالية كبيرة بتوجيه نيران المدفعية الأوكرانية الى الأهداف الروسية. تطبيق الاستهداف هذا واحد من بين عشرات الأمثلة على ابتكارات ساحة المعركة التي توصلت إليها أوكرانيا منذ نحو عام من الحرب؛ لتجد غالبا حلولا رخيصة الثمن لمشكلات باهظة التبعات.


حلول مبتكرة ومرتجلة

تحوم طائرات مسيّرة بلاستيكية صغيرة (وهي تئزُ بهدوء فوق الرؤوس) لتلقي بالقنابل اليدوية وغيرها من الذخائر على القوات الروسية. أما الطابعات ثلاثية الأبعاد فباتت تصنع أدوات احتياطية ليتمكن الجنود من إصلاح المعدات الثقيلة في الميدان. حوّر الميكانيكيون شاحنات النقل الاعتيادية لتصير منصات اطلاق صواريخ متنقلة. وتوصل المهندسون الى طرق لتثبيت القذائف الأميركية المتطورة على طائرات مقاتلة سوفيتية قديمة مثل «ميغ 29»؛ مما يساعد على إبقاء القوات الجوية الأوكرانية محلقة بعد أشهر من الحرب. حتى أن أوكرانيا طورت سلاحها الخاص المضاد للسفن، «نبتون»؛ مستندين الى تصاميم لصواريخ سوفيتية يمكنها استهداف الاسطول الروسي من مسافة نحو مئتي ميل (322 كم). أثار هذا النوع من البراعة الأوكرانية اعجاب المسؤولين الأميركان؛ الذين امتدحوا قدرة كييف على .. «ايجاد حلول مرتجلة ومبتكرة؛ بالاستفادة من كل ما هو في متناول اليد» لاحتياجات ساحة المعركة، بحيث تملأ الفجوات التكتيكية الهامة التي لم تُغطها الاسلحة الغربية الأكبر والأكثر تطورا.

في حين أن المسؤولين الأميركيين وغيرهم من المسؤولين الغربيين لا يملكون دائما نظرة نافذة وكاملة حول كيفية عمل الأنظمة المصممة حسب الطلب في أوكرانيا؛ ويعود السبب إلى حد كبير لأنهم ليسوا على الأرض؛ لكن هؤلاء المسؤولين والمحللين المستقلين يقولون إن أوكرانيا أصبحت معمل معارك حقيقياً للحلول الرخيصة ولكن الفعالة. يقول «سيث جونز» مدير برنامج الأمن الدولي بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: «ان ابتكاراتهم مثيرة للإعجاب بشكل لا يصدق». 


«اختبار معركة في العالم الحقيقي»

في الوقت ذاته قدمت الحرب في أوكرانيا أيضا للولايات المتحدة وحلفائها فرصة نادرة لدراسة أداء أنظمة أسلحتهم في ظروف الاستخدام المكثف، وما هي الذخائر التي يستخدمها كلا الجانبين لتحقيق الانتصارات عند القتال الحاد في هذه الحرب الحديثة الضروس. كما يتابع ضباط العمليات الأميركيون ومسؤولون عسكريون آخرون مدى نجاح روسيا في استخدام الطائرات بدون طيار، زهيدة الثمن والقابلة للاستهلاك التي تنفجر عند الارتطام. وهي مقدمة من إيران، لتدمير شبكة الكهرباء الأوكرانية. 

قال مصدر مطلع على الاستخبارات الغربية: «اوكرانيا قطعا مختبر أسلحة بكل معنى الكلمة؛ لأنه لم يتم استخدام أي من هذه المعدات فعليا في حرب بين دولتين متقدمتين صناعياً ((مسبقا)). انه اختبار معارك في العالم الحقيقي». بالنسبة للعسكرية الاميركية كانت الحرب في أوكرانيا مصدرا لا يصدق للبيانات حول فائدة أنظمتها الخاصة. تبين ان بعض الأنظمة البارزة الممنوحة للأوكرانيين (مثل طائرات سويتش بليد- Switchblade 300” المسيّرة، وصاروخ مصمم لاستهداف أنظمة رادار العدو) كانت أقل كفاءة في ساحة المعركة مما كان متوقعا؛ وفق أحد ضباط العمليات العسكرية الأمريكية المطلعين على ساحة المعركة،  إضافة الى دراسة حديثة لمركز أبحاث بريطاني. لكن قاذفة الصواريخ المتعددة M142 الأميركية خفيفة الوزن (أو HIMARS) كانت بالغة الأهمية لنجاح أوكرانيا؛ حتى عندما تعلم المسؤولون دروسا قيمة حول معدل الإصلاح والصيانة الذي تطلبته تلك الأنظمة في ظل هذا الاستخدام المكثف. أما كيفية استخدام أوكرانيا لإمداداتها المحدودة من صواريخ HIMARS لإحداث الخراب ضد القيادة والسيطرة الروسية؛ إذ ضربت مواقع القيادة والسيطرة ومستودعات الامداد؛ فكانت أمرا لافتا للنظر، حسبما قال مسؤول دفاعي، مضيفا أن القادة العسكريين سيدرسون هذا الحدث لسنوات. وكان مدفع “هاوتزر M777” جزء مهم آخر من التجربة التي تكشفت؛ فتلك المدفعية القوية كانت جزء حيويا من القوة الاوكرانية في ساحة المعركة. لكن سبطانات مدافع الهاوتزر تفقد استقامتها إذا جرى إطلاق الكثير من القذائف في فترة زمنية قصيرة (كما قال مسؤول عسكري آخر)؛ مما يقلل من دقة تصويب المدفع ومن كفاءته. 


أنظمة باتت من الماضي

أجرى الاوكرانيون ايضا ابتكاراتٍ تكتيكية أبهرت المسؤولين الغربيين؛ إذ قام القادة الأوكرانيون بتكييف عملياتهم لتوظيف فرق صغيرة من المشاة المترجلين أثناء التقدم الروسي على كييف. متسلحين بصواريخ «ستينغر- Stinger” و”جافلين-Javelin” التي تُطلَق من على الكتف؛ كان بإمكان القوات الاوكرانية التسلل حتى الدبابات الروسية دون وجود مشاة حول أجنحتهم. 

درست الولايات المتحدة ايضا وعن كثب الصراع الاوكراني لتخرج بدروس أكبر حول كيفية شن حرب بين دولتين حديثتين في القرن الحادي والعشرين. ويرى مسؤول العمليات العسكرية أن أحد الدروس التي استخلصتها الولايات المتحدة من هذا الصراع أن المدفعية المسحوبة (مثل نظام هاوتزر M777) قد تكون شيئا من الماضي. فتلك الأنظمة يصعب تنقلها بسرعة حتى تتفادى النيران المعاكسة؛ وفي عالم يعج بالطائرات بدون طيار والمراقبة من الأعلى.. “يصعب اليوم الاختفاء فعليا”.. كما يمضي المسؤول قائلا. وعلى حد قول النائب الديمقراطي “جيم هايمز” من ولاية كونيكتيكت، عضو لجنة المخابرات بمجلس النواب. حول الدروس المستخلصة هنا: “يمكن كتابة كتاب حول الموضوع”.


استعادت أوكرانيا في الخريف الماضي مساحات واسعة من الارض عبر سلسلة من الهجمات المضادة، وقارعت القوات الروسية بمدفعية وصواريخ أميركية الصنع. وكان توجيه بعض تلك المدفعية بواسطة نظام استهداف محلي الصنع، طورته أوكرانيا في ساحة المعركة.  

حوّلت بعض البرامج الرقمية الأوكرانية الصنع أجهزة الكمبيوتر اللوحية والهواتف الذكية المتاحة بسهولة إلى أدوات استهداف متطورة، بات الجيش الأوكراني يستخدمها الآن على نطاق واسع. وكانت النتيجة تطبيق هاتف جوال (mobile app) يُغذي صور الأقمار الصناعية والصور الاستخباراتية الأخرى الى خوارزمية استهداف ضمن الوقت الفعلي، تساعد الوحدات القريبة من الجبهة على توجيه النيران إلى أهداف محددة.



مُسيّرة انتحارية بعشرة آلاف دولار

سجّل مقاولو الدفاع الأميركيون هذه الفرصة الجديدة لدراسة (وتسويق) أنظمتهم؛ إذ أعلنت شركة «BAE Systems” (= شركة بريطانية متعددة الجنسيات للأسلحة والأمن والطيران، ومقرها لندن. المترجمة) بالفعل أن نجاح الروس باستخدام طائراتهم المسيرة ذات الطلعة الواحدة (الانتحارية- kamikaze) كان له تأثير على تصميم الشركة لمركبة قتال مصفحة جديدة للجيش، مع إضافة المزيد من الدروع لحماية الجنود ضد الهجمات من الأعلى. كما سعت مفاصل مختلفة من الحكومة والصناعة الأميركية إلى اختبار أنظمة وحلول جديدة، أثناء معركة كانت أوكرانيا بحاجة فيها لكل المساعدة التي يمكن أن تحصل عليها. 

خلال الايام الاولى من النزاع؛ ارسلت “الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية- المكانية الوطنية” (the National Geospatial-Intelligence Agency) (= وكالة دعم قتالية تابعة لوزارة الدفاع بالولايات المتحدة، وعضو مجتمع الاستخبارات بالولايات المتحدة. المترجمة) خمس طائرات استطلاع بدون طيار خفيفة الوزن وعالية الدقة، الى قيادة العمليات الأميركية الخاصة في أوروبا؛ تحسبا لإمكانية الاستعانة بها في أوكرانيا. تلك المسيّرات (التي صنعتها شركة تُدعى “Hexagon”) لم تكن جزءًا مما يسمى ببرنامج التسجيل في وزارة الدفاع؛ مما يشير إلى الطبيعة التجريبية للصراع. وتفاخر نائب الأميرال البحري “روبرت شارب” (رئيس وكالة الاستخبارات الجغرافية - المكانية الوطنية في ذلك الوقت) علنا أن الولايات المتحدة دربت “شريكا عسكريا” لها في أوروبا لاستخدام ذلك النظام؛ قائلا: “ما يتيح لك ذلك القيام به هو الخروج تحت غطاء السحاب وجمع البيانات “الاستخباراتية- الجغرفية” (geointelligence) الخاصة بك”. ورغم الجهود المكثفة التي بذلتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأميركيين وافراد الصناعات الخارجية؛ لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الطائرات المسيرة قد دخلت المعركة اطلاقا. وفي هذه الاثناء قال مسؤولون مختلفون من العسكرية والاستخبارات الاميركية انهم يأملون ان يكون انتاجهم ما تصفه لغة الجيش الأميركي بأنها طائرات مسيرة “قابلة للاستنزاف”.. بمعنى: أسلحة رخيصة تستخدم لمرة واحدة؛ أولوية قصوى لمقاولي الدفاع. وهو ما عبر عنه أحدهم بأمل قائلا: “أتمنى أن نتمكن من تصنيع طائرة هجوم مسيرة ذات استخدام واحد بعشرة آلاف دولار”. 

سي أن أن الاميركية