صفحات مطوية: حكاية جدتي {الملايه}

ثقافة شعبية 2024/02/01
...

 عادل العرداوي

علينا دائماً أن نستذكر لمحات اجتماعية عن الحياة التي كانت سائدة ايام زمان وتحديداً من حياة اجدادنا وابائنا وكيف كانت الأمور اليومية تجري فيها، لأن في ذلك عبرة لنا نحن ابناء الجيل الحالي، ومثال على ذلك أسلط الضوء بشكل سريع على شكل من أشكال التعليم القديم الذي كان سائداً في مدننا وقرانا قبل (100) عام مضت من الآن.
ذلك التعليم القديم الذي كان قائماً ايام زمان قبل ولادة المدارس الحكومية والأهلية الحديثة في بلداننا العربية والإسلامية ومنها بلدنا العراق اقول :
- هذا التعليم القديم كان قائمًا وموجوداً في معظم مناطق العراق حتى خمسينات القرن العشرين المنصرم...
- ويسمى التعليم بالكتاتيب أو التعليم عند الملا أو الملاية أي (المعلم أو المعلمة) لا فرق وجمعهما (ملالي) وهؤلاء كانوا يعدون في المجتمع طبقة اجتماعية محترمة ومرموقة وينظر لهم بتوقير خاص لأنهم يعلمون الأطفال من أبناء المجتمع قراءة وتهجي القرآن الكريم وحفظه في نهاية المطاف، وتعليمهم القراءة والكتابة والخط العربي على صفائح من (التنك)وبأقلام مصنوعة من القصب وبحبر محلي مصنوع من حرق الخرق البالية وامتصاص منقوعها من الماء الأسود لغرض الكتابة..
- والملا الرجل والملاية المرأة، وقد كانت جدتي لوالدي في بدايات القرن العشرين المنصرم تمتلك كتاتيب في بيتها الكائن آنذاك في مركز قضاء المناذرة/ محافظة النجف اليوم... تعلم فيها الصبيان والبنات قراءة القرآن وأوليات القراءة والكتابة، وقد تعلم والدي (ابن الملاية علاية)، وهذا اسمها في كتاتيب والدته هو وأعمامي الذين يكبرونه سناً رحمهم الله..
- وكان خط والدي (الكتابة) خطاً قوياً وواضحاً والفضل في ذلك يعود لتعليم والدته له، واكتفى بما تعلمه منها، ولم يدخل المدارس الحديثة فيما بعد..وللعلم فان المرحوم والدي هو من مواليد/ 1902... وكان الناس يطلقون على بيت جدتي (بيت الملايه علايه)، وكانت الأمهات يقمن عند ختام أولادهن القرآن الكريم بتخضيب باب دارنا وعتبته بالحناء وفاءً لنذر عليهن واجب الوفاء..!!
- وكان التلاميذ الذين يصلون إلى مرحلة ختمة القرآن الكريم قراءة وكتابة وتجويداً وحفظاً في الكتاتيبـ تقام لكل واحدٍ منهم حفلة تخرج خاصة به (زفه) اذ يركبونه على حصان ويتجولون به في ازقة وحواري المدينة، ومنها ازقة وحارت العاصمة بغداد لإعلان هذا الخبر السار (ختمة القران) ومعه زملاؤه في الكتاتيب يرددون خلفه الادعية والصلوات على محمد وآل محمد واحيانا ترافق بعض زفاف الختمة الموسيقى الشعبية عبر آلات هوائية وتنثر على رؤوس المشاركين في الزفة الحلويات والمصقول والملبس والجوز واللوز والحمص وغيره (واهليه)، وتكون أيدي المشاركين في الزفة مخضبة بالحناء ويحملون الشموع الموقدة في صواني من الالمنيوم يحملونها على رؤوسهم مليئة بنبات الآس والشموع الصغيرة والسمسم والحلويات..
-  وفي نهاية المطاف فان والد ووالدة الطفل المتخرج من الملا يبادرون لتثمين وتكريم الملا بقاط من الملابس الجديدة أو كيس من الرز (العنبر) أو (ديك ودجاجة) أو (خروف) أو مبلغ معين من الليرات العثمانية أو الروبيات الانگليزية (الهندية) وبعدها أصبح بالدينار العراقي، حسب الحالة الاجتماعية والاقتصادية لعائلة الصبي المتخرج..
وكانت محلات بغداد والكاظمية تزخر بالكتاتيب المقامة في البيوت أو المساجد أو التكايا، وكان يساعد (الملا) في مهمته (صانع) ذو بنية وشخصية قوية، لأنه اذا غاب الملا عن الدرس لسبب أو اخر فان الصانع يقوم بمهمته مؤقتاً لحين التحاقه، وكان يساعد الملا في تهيئة مستلزمات الدراسة للطلاب وفحصها قبل دخول الملا الدرس وكذلك يساعد الملا في معاقبة الطلبة المشاغبين أو الكسالى، عبر آلة (الفلقة) حيث يقوم الصانع بمسك ذلك الطالب المعاقب ورفع رجليه في الفلقة المشدودة بالحبال وسط الصف، ليقوم الملا بضرب رجلي الطالب المعاقب بالعصا أو (الخيزرانة) والطالب يصيح ويستريح ويصرخ من شدة الألم..!!
واحيانا يقوم صبيان الكتاتيب بقراءة بعض نصوص الاغاني الشعبية الخاصة بهم مثال:
طلعت الشميسه.. على گبر عيشه..
عيشه بنت الباشا.. تلعب بالخرخاشه
صاح الديچ بالبستان.. الله ينصر السلطان..
وفي أهزوجة اخرى يطلقاها الصبيان عندما يبقيهم الملا أو الملا لحين مغيب الشمس أو حتى يتجاوز ذلك الوقت لإطلاق سراحهم والسماح لهم بالعودة إلى بيوتهم...
ينشدون هذه الأنشودة الرقيقة :
ياملتنا قرينا
راح الوكت علينا
وشموسنا غابت
وارواحنا ذابت
طلعنا ليبره..شفنه خبيب الله
يافاطمه بنت النبي
شيلي كتابچ وانزلي
على گبر محمد وعلي..
- هذه صورة حقيقية من صور ايام زمان التي غربت عنا بلا رجعة فسلام  عليها..