رقمنة الشعر

ثقافة 2024/03/10
...

 عبد علي حسن

لاشك بأن ما نشهده من ثورة إلكترونية ورواج في استخدام المعلوماتية الجديدة وعلى المستويات كافة بشكل واسع منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ارتباطا بظهور العولمة كنظام اقتصادي جديد، فقد ظهر الوسيط الاتصالي الإلكتروني  ليتحول العالم إلى بيت صغير، وليس قرية صغيرة، وليُضاف إلى الوسائط الأخرى التي بدأت شفاهية ثم كتابية ثم طباعية وأخيرا الكترونية، وليوفرَ إمكانية التحرر من الوسيط الورقي إلى الوسيط الإلكتروني ليكون مكاناً ثالثاً افتراضياً يلتقي في حيٌزه الأفراد والجماعات.
وعُدّ هذا الانتقال نهاية لما بعد الحداثة من قبل الفكر الغربي، وبدء الدخول في مرحلة بعد ما بعد الحداثة ارتباطا بظهور الرقمية، أو كما أطلق عليه الناقد الثقافي البريطاني «ألان كيربي» بالحداثة الزائفة ثم تم تعديله بالحداثة الرقمية في كتابه (الحداثة الرقمية) 2009، التي أعادت هيكلة العلاقة بين المؤلف والنص والمتلقي، إذ صارت السلطة المطلقة في هذه الحداثة للمتلقي الذي سيساهم بنسبة أكبر وبما وفرته مناهج ما بعد الحداثة من مساحة للمساهمة في إنتاج النص، ليكون المؤلف - نتيجة هذه السلطة - مستخدماً كل ما يوفره الحاسوب من برامجيات صوتية وبصرية وحركية لمخاطبة المتلقي. ولحداثة التجربة فإن رؤى وأفكاراً عديدة قد طُرحت بشأن تسمية الجنس الإلكتروني الجديد، وحصل تداخل بين المصطلحات التي يختص بها كل شكل أو نمط الكتروني، وللعرب مساهمة خجولة وحذرة أمام المساهمة في وضع لمسة واضحة، على الرغم من توفر فرصة سانحة للمبدعين العرب للخوض في هذا المجال لإنتاج نصوص رقمية وتفاعلية يكون حيّزها القرائي والتفاعلي هو صفحة الحاسوب الزرقاء، وهو أمر طبيعي يحصل عند البدايات المؤسسة لهكذا مساهمة أو تحوّل، وعبر متابعتنا لحيثيات العلاقة بين الأدب والوسيط الإلكتروني الجديد فقد تمكنا من وضع اليد على ثلاثة أنماط تعالقية كالآتي:
 1 - الصحافة الإلكترونية/ وهي النصوص الشعريّة المرحّلة من الوسيط الورقي إلى الوسيط الإلكتروني/ شاشة الحاسوب دون أي تغيير، فالنص بالإساس هو نص ورقي، واستثماراً لسعة وضمان انتشار هذه النصوص عبر وسائط التفاعل الاجتماعي «الفيسبوك» والصحف والمواقع الإلكترونية الأدبية والثقافية، فإن الشعراء يقومون بعملية انتقال النص من الوسيط الورقي إلى الشاشة الزرقاء، ولا يحمل النص أي صفة أخرى غير هذه الصفة. ويلحق بذلك الكتب الإلكترونية بعد رفعها إلى المنصة الإلكترونية ليتم تلقيها قراءتها إلكترونيا على شاشة الحاسوب ، واحيانا تشفع هذه النصوص الشعرية بصور فوتوغرافية أو لوحات فنية لا تغيّر من صفة تكوينها بعدّها نصوصا ورقية مرحّلة. كما وتحمل هذه النصوص اسماء مؤلفيها عادة، أي أن المؤلف يكون معلوماً، كما في النصوص المنشورة على الصفحات الشخصية أو في صفحات المجموعات المختصة بالشعر أو قصيدة النثر وسواها من أنشطة الصحافة الإلكترونية. ولا يستخدم في نشر هذه النصوص أية برامج رقمية ينتجها الحاسوب.
ويُعدّ هذا النمط من أكثر الأنماط الإلكترونية الأخرى شيوعاً، كما أنه يضمن للمؤلف سعة الانتشار والمتلقي إمكانية توفر الاطلاع وتلقي النصوص الشعرية المنتجة في العالم أجمع وخاصة ما ينتج في البلدان العربية عبر المواقع الإلكترونية والصحف والصفحات الشخصية، ونظراً إلى مشاعية النشر في هذه الصفحات وعدم إخضاع النصوص الشعرية وسواها إلى الفحص وتمييز الجيد منها فإننا نشهد اختلاطاً عشوائياً لطبيعة التجنيس النصي فضلاً عن المستوى الهابط للعديد من هذه النصوص ، كما أن هذه النصوص تتصف بالزوال السريع وذات أثر مؤقت.
 2 - الشعر الرقمي: وهو النص الشعري الذي يكتبه مؤلف واحد معلوم الاسم،  ويستخدم المسارب البرامجية الأخرى كالمؤثرات السمعية والبصرية والحركية، وقد وضع الناقد الدكتور سعيد يقطين في كتابه (النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية) تعريفاً للنص الرقمي جاء فيه (هو الإبداع الذي يعتمد على اللغة اساساً في التعبير الجمالي وثم على علامات أخرى غير لغوية صورية وصوتية وحركية إضافة إلى الترابط النصي التوليفي الذي يسمح بربط مكونات النص اللغوية وغير اللغوية ربطاً يقوم على الانسجام والتفاعل) ووفق التعريف الآنف الذكر، فإن النص الشعري الرقمي ينشأ في بيئة رقمية ويشمل الأعمال المبنية بشكل حصري من خلال الأجهزة الرقمية ولأجلها مثل الحواسيب والهواتف الذكية، فهو بناء ينبع جماله الأدبي من الحوسبة، فهو موجود فقط في الفضاء الرقمي الذي يمكن برمجته وكتابته وتطويره، لذا فهو - النص - يجمع بين الأدب والتكنولوجيا ولا يمكن تلقيه إلّا عبر وسيط رقمي، كما لا يمكن تحويله إلى نص ورقي، فهو يستخدم تقنية الهايبر تكست/ النص الترابطي لتوفير إمكانية تفاعل المتلقي عبر الحذف والإضافة وبذلك سيسهم المتلقي بإنتاج النص دون إلغاء المرجعية التأليفية للنص.
 3- النص التفاعلي: وهو نص لانهائي وبدون مرجعية تأليفية لشخص معين، إذ يقوم بتأليفه أشخاص متعددون عبر الحاسوب وفق الإضافة الشخصية لكل مستخدم، ويتم إنتاجه وتلقيه في الفضاء الإلكترونية حصراً، ولا يمكن تحويله إلى نص ورقي لأنه يستعين بالمؤثرات السمعية والبصرية والحركية حسب الإضافة التي يقترحها المتلقون وفق ما يوفره الحاسوب من برامج سمعية وبصرية وحركية ورسوم تشكيلية مع وجود خاصية الترابط النصي الهايبر تكست، ويستمد هذا النص تفاعليته الإجرائية عبر الحذف والإضافة التي يفتحها المتلقي، ولم تظهر بعد نتائج السعي لوجود هذا النص على الصعيد العراقي والعربي على حد علمنا، أما على الصعيد العالمي فلم تصلنا بعد بعض من تجارب النص التفاعلي وفق الصيغة التي ذكرناها آنفا. وبذلك فإن هذا النمط غالباً ما يطلق عليه (النص الرقمي التفاعلي).
 رقمنة الشعر: إن ما يعنينا من هذه الأنماط السالفة آنفا التي يتعالق بها النص مع الوسيط الإلكتروني الجديد هو الشعر الرقمي، والرقمنة تعني تحويل الاتصال الكتابي واليدوي إلى رسائل يفهمها الجميع، إذ يتم وفق هذه العملية تحويل المعلومات إلى تنسيق رقمي يمكن قراءته بواسطة الحاسوب، وذلك بهدف تمثيل صورة أو صوت أو مستند أو إشارة عن طريق توليد سلسلة من البيانات الرقمية بصيغة ارقام ثنائية يمكن لأجهزة الحاسوب معالجتها، ووفق هذه العملية يمكن تحويل مخطوطة ما إلى قراءات صوتية أو فيديوهات وتسهيل عملية الوصول إليها من أي مكان، وباستخدام الهايبر تكست/ النص المترابط التشجيري يمكن للمتلقي التفاعل مع أي نص يتم تحويله إلى أجهزة الحاسوب كنص رقمي ينتج في الفضاء الإلكتروني ويتم تلقيه كذلك في هذا الفضاء، إلّا أن حداثة عهد الشعراء العراقيين والعرب بهذه التقنيات الإلكترونية وضعف الثقافة الإلكترونية للكتاب والقراء على حد سواء فإننا لم نشهد تجارباً متعددة وملحوظة في كتابة هذا الجنس الجديد، ماعدا تجارب الشاعر العراقي الدكتور مشتاق عباس معن الذي قدم تجربته الأولى (تباريح رقمية لسيرة بعضها ازرق)2007، وبعد عشر أعوام قدم تجربته الثانية (لا متناهيات الجدار الناري) وبعد عامين قدم تجربة جديدة حاول فيها الجمع بين عالمين متناقضين، الواقعي -النص الورقي والافتراضي - الرقمي، وأطلق على هذه التجربة (نصوص تكنو ورقية من العمود الومضة) وقد ضمها بمجموعة (وجع مسن) 2019. وقد اهتم نقاد الأدب الإلكتروني بتجربة الشاعر مشتاق عباس معن الريادية في مجال إنتاج الشعر الرقمي، فقد أشارت الناقدة الرقمية الدكتورة فاطمة البريكي حول مجموعة الشاعر الاولى (تباريح رقمية) في مقدمة كتاب د.شميسه خلوي (اشتغال العتبات في القصيدة الرقمية ) إلى أن (لم يكن هناك من سبقه ولم تكن التكنولوجيا ببرمجياتها وعتادها متاحة بالسهولة التي عليها الان، فقد ولدت تلك المجموعة في ظروف استثنائية، ولولا العزيمة والإصرار لما كان يمكن أن تصدر بذلك الشكل والمستوى) فقد كان للخبرة الشخصية أثر في التعاطي مع النمط الكتابي المتوسّل بالتكنولوجيا كذلك يتضح أثر الخبرة التراكمية عبر الاطلاع على تجارب الآخرين من العرب والأجانب، وهو ما نفتقده عند الشعراء العراقيين، فلم نطلّع على تجارب شعر رقمية عراقية غير تلك التي أنجزها الشاعر مشتاق عباس معن، ولعل السبب في ذلك يعود إلى:
   1- حداثة التجربة، إذ ظهر هذا النمط في المشهد الثقافي العالمي في أواخر القرن الماضي، وتأخر الإطلاع على المنجز العالمي وكذلك التعرف المتأخر على هذا الوسيط الاتصالية الجديد/ الإلكتروني من قبل الشعراء العراقيين والعرب، الأمر الذي أضعف من الخبرة التراكمية للولوج في هذا النمط الجديد.
2- ضعف الثقافة الإلكترونية وعدم اتساع معرفة الشعراء العراقيين في كيفية استخدام البرامجيات التي يتيحها الحاسوب لإنتاج نص شعري رقمي في الفضاء الأزرق يتوافر على الاشتراطات التكنولوجية، وكذلك ضعف الثقافة الإلكترونية وكيفية استخدام الحاسوب لتلقي هذه النصوص من قبل المتلقي،  إذ أن انساق التلقي العربي المعاصر لم تكن مؤهلة للقيام بدورها في التفاعل مع هذه النصوص الرقمية، لأن الذائقة القرائية للمتلقي العربي قد طردت أية وسيلة أخرى تتداخل في إنتاجها فنون متعددة أدبية منها والكترونية، إذ أن الأمر متعلق بقدرة كتاب هذا الأدب الرقمي على إبداع نسق جديد يتيح هذه الإمكانية في الوقت الحاضر أو مستقبلا.
3- ندرة الدراسات والبحوث النقدية التي تهتم بعلاقة الأدب ومنها الشعر بالوسيط الإلكتروني الجديد وبالتحديد الشعر الرقمي، على الرغم من أن البحوث والدراسات التنظيرية لهذه العلاقة قد سبقت أي إجراء تطبيقي لإنجاز قصيدة رقمية، وأغلبها قد نهل من المنجز النقدي الغربي وخاصة الأنماط المذكورة آنفا، مما جعل ساحة الاستقصاء والمتابعة من قبل الشعراء، وكذلك المتلقي خالية من أي ظهور لهذا النمط.
على ألا يغيب عن أذهاننا أن البشرية متجهة صوب تعميق تأثير هذا الوسيط في الحياة الثقافية التي تتطلع إلى ظهور هذا الجنس الجديد الذي لم يشهد اتساعا ملحوظا في إنتاجه وانتشاره إلّا أن المستقبل سيشهد ظهوره بفعل هيمنة هذا الوسيط وظهور الثورة المعلوماتية بمراحلها الجديدة المتصلة بالسرعة واجتراح برامجيات جديدة مؤثرة في تشكّل عصر الرقمنة الذي نعيشه في الوقت الحاضر.
ونتيجة للأسباب التي ذكرت آنفا فإن الشعراء العراقيين وحتى العرب قد وجدوا في هذا الوسيط الذي يوفره الواقع الافتراضي فرصة إطلاع أوسع عابر للبلدان وللجغرافية التي ربما تشكل حائلا دون توصيل رسائل تلك النصوص عبر ترحيل تلك النصوص من فضائها الورقي إلى الشاشة الزرقاء، فظل منجز الشعراء بعيداً عن الأدب الرقمي أو التفاعلي الذي نوّهتُ عنه آنفا، على الرغم من انصافها بالاستهلاكية واللا ثبات والزوال السريع ، وقد اكتفوا بالدور الوسيطي فقط لقراءة النصوص الورقية إلكترونيا.