فضاءات العنف السَّردي في الرواية العراقيَّة المعاصرة
عبد علي حسن
* تسعىٰ ورقتنا النقدية هذه إلى معاينة التمثيل السردي للعنف في الرواية العراقية المعاصرة من خلال النموذج الذي اختارته الورقة للمعاينة، وتحديداً بعد التحول البنيوي للمجتمع العراقي في نيسان 2003، إذ شكلت ظاهرة العنف بكل أشكاله واحدة من الظواهر المنظورة والملموسة والخطيرة التي تمسُّ الوجود الإنساني والتي تعد ولا تزال من أبرز مخرجات ذلك التحول.
ولاشكّ بأن الرواية العراقية منذ نشأتها الفنية في ستينيات القرن الماضي بظهور رواية "النخلة والجيران" للراحل غائب طعمة فرمان عام 1967، قد ارتبطت بالتحولات والمتغيرات الحاصلة في بنية المجتمع العراقي حتى وقتنا الحاضر ، فقد شكّلت التضادات الطائفية والسياسية والعرقية وحتى القومية المصادر الأساسية لظاهرة العنف الذي تمظهر بعدة مظاهر لعل أبرزها القتل على الهوية وتفجير العبوات الناسفة والسيارات المفخخة والإغتيالات السياسية والدينية والتهديدات المباشرة وغير المباشرة وصولاً إلى سيطرة "داعش" الإرهابي على نينوى والفلوجة وأجزاء من الشمال الغربي للوطن، وما قامت به من أفعال مشينة بحق الأقليات الدينية والقومية في سنجار وسبيهم للنساء الايزديات والمسيحيات وممارسة شتى أنواع العنف الجسدي والنفسي والديني. فقد تمثلت الرواية العراقية كل تلك المظاهر بأساليب مختلفة الواقعية منها والعجائبية والغرائبية والتاريخية، على سبيل المثال لا الحصر رواية "فرنكشتاين في بغداد" لاحمد السعداوي و"فندق كويستيان" لخضير فليح الزيدي و"دمه" لمحمد الاحمد و"بهار" لعامر حميو و"طشاري" لانعام كه ججي وسواها من روايات عراقية كثيرة دخلت هذه المنطقة من باب ضرورة الإحاطة بمجريات الواقع العراقي الجديد وتحديدا ظاهرة العنف التي سادت الحراك الاجتماعي وبوجهات نظر متباينة الأسلوب ومتفقة على التنديد والإدانة والتضاد مع كل هذه المظاهر.
ومن بين هذه الروايات التي تمثلت العنف سردياً والتي شكّلت عينة ورقتنا النقدية هذه ومصداقاً لما ذهبنا إليه وهي رواية "عازف الغيوم" للروائي علي بدر، على أن السؤال النقدي الجوهري لا يقف عند حدود التصوير الظاهري لتلك المظاهر وتبديها في المتن الروائي، وإنما البحث في جوهر الرواية، من قبيل هل استطاع المؤلف أن يطرح قضية العنف، وأن يعبّر عنها من خلال عناصر البنية السردية؟ وهل استطاع أن يجعل المتلقي يتلمس العنف في الرواية ويعرف الهدف منها من خلال الشخصيات والأحداث والأماكن والزمن؟ وصولاً إلى طرح وجهة النظر أو الرؤية الفكرية التي يتوصل إليها المتلقي تأويلا ً وتأكيدها عبر الخصائص الفنية للرواية.
يتضمن عنوان ورقتنا أربع دوال، الأول هو فضاءات جمع فضاء واعني به المكان في تعالقه مع مكونات السرد الأخرى كالشخصيات والوقائع والزمن الروائي، وأرى أن مصطلح الفضاء هو أكثر اتساعاً في تعالقه المختلف من المصطلحات الأخرى كالمكان والحيز أو الفراغ ، فمصطلح الفضاء ينزع عن المكان الاستقلالية الفيزيقية المجردة لذاته، ليكون حاضنة متداخلة مع الأركان الأخرى، الثاني "العنف" وهو في أبسط تعريف له أي فعل عنيف ينتج عنه أو معقول ينتج عنه أذىً أو معاناة، وهو على خمسة أنواع الجسدي، النفسي، الجنسي، الاقتصادي، القانوني، وفي بعض الحالات تتداخل أنواع العنف مع بعضها البعض. أما "السّردي" فهو مجموع الحوادث والوقائع التي يخبر عنها المتن الروائي والدال الرابع هو الرواية العراقية المعاصرة، واعني بها الرواية التي أنتجت في عصرنا الراهن المعيش الحاضر، وتحديدا بعد التحول البنيوي للمجتمع العراقي في ربيع 2003. وإذا ما جمعنا هذه الدوال الجزئية فإنها ستشكل الدالة الكبرى للعنوان ومدلولها الأمكنة المتّسعة المتعالية مع اركان السرد الروائي الأخرى التي جرى فيها المتخيل السردي لظواهر العنف وتجليها في الرواية العراقية المعاصرة عبر النموذج المقترح وهو رواية "عازف الغيوم" التي تتهيكل على التضاد بين فكرتين أساسيتين تجدان صداهما وتجلياتهما في المجتمعات المعاصرة وخاصة الإسلامية والأوربية ، فالفكرة الاولىٰ تنهض علىٰ القبول بالٱخر وتؤمن بالاختلاف وضرورة قيام المجتمعات على مبادئ التناغم الاجتماعي بين أفراد المجتمع على اختلاف هوياتهم السياسية والدينية والقومية والثانية تكرّس الخلاف أسلوباً لسيطرة موحهاتها الٱيديولوجية والدينية والطائفية والقومية على الٱخر واخضاعه لها، وقد تمكنت معاينتنا النقدية للرواية من تشخيص ثلاثة فضاءات كانت ميدانا وحاضنة لهذا التضاد بين الفكرتين عبر التمثل السّردي لمخرجات المجتمعات التي تشهد مثل هذا التضاد، فهناك من يمثل الاتجاه الأول وهناك من يمثل الاتجاه الثاني.
ففي الفضاء الأول وهو فضاء استرجاعي يختص بما واجه الشخصية المركزية "نبيل" عازف التشيللو من عنف جسديّ ونفسيّ من قبل الجماعة السلفية المسلحة التي اتخذت من الشارع الذي تقع فيه العمارة التي يسكن فيه نبيل مكاناً لبسط نفوذها وتطبيق شرائعها الدينية بشكل قسري وتقف بوجه اي تصرف يتنافى وموجهات الإسلام السلفي بما في ذلك تحريم القيام بأي نشاط يتضمن عزف الموسيقى ٰ وفق التعاليم الإسلامية، إذ اقدم سكان الحي الجدد على مضايقة "نبيل" الموسيقي لما يشكله من مصدر إزعاج لهم ليلا أثناء عزفه على ٱلته الموسيقية فضلاً عن وجود شبهة تحريمية لما يقوم به من احترافه الموسيقى ، كما أن الجماعة المسلحة قد قامت بتكسير ٱلته الموسيقية وضربه من قبل رئيس المجموعة واهانته أمام أهالي الحي، ومطالبته بالتبرع لبناء جامع جديد في الحي، كل ذلك جرى كوقائع وأحداث حصلت في الماضي وعدت استرجاعاً سردياً اعادنا إلى الماضي بالنسبة للحظة الراهنة التي كان فيها نبيل يتأمل الحي للمرة الأخيرة وهو داخل السيارة التي ستنقله إلى الحدود بمساعدة جماعة تبنت عملية تهريبه إلى بلجيكا، فقد كانت لحظة الاسترجاع هذه هي اللحظة التي توقف فيها القص الزمني لتبدأ عملية السرد الاسترجاعي كما "أن اكمال الإسترجاع أو العودة إلى الماضي يملأ الثغرات السابقة التي نتجت من الحذف أو الاغفال في السرد (المصطلح السردي/ جيرالد برنس، ت/ عايد خزندار/ المجلس الأعلى للثقافة، مصر/ 2003 ص25" فقد كان للعنف الجسدي والنفسي الذي تعرض له نبيل من قبل أهالي الحي والجماعات المسلحة الأثر الواضح والدافع في سعيه لمغادرة البلاد مهاجرا حتى ولو كان بطريق غير مشروع، على الرغم من أن فكرة الهجرة إلى أوروبا تحديداً لم تغادر ذهنه بغية ممارسة هوايته على نحو أفضل، إلّا أن العنف الذي تعرض إليه قد برّر وبشكل قاطع ضرورة هجرته إلى خارج البلاد. لقد أسهم هذا الفضاء الإسترجاعي في تشكّل بنية الهجرة بسبب العنف الذي تعرّضت له الشخصية المركزية.
على أنّ هنالك مفردات أخرى تظافرت مع استرجاعات الشخصية المركزية في تخليق فضاء العنف الذي تمثلته الرواية سردياً، ففي وصفه للحي وهو يلقي النظرة الأخيرة وأثناء وجوده في السيارة التي ستقلّه إلى المكان الذي ستنقله منه سيارة المهرّب إلى بلجيكا "عمود الكهرباء في الركن، وبيتان كانا جميلين فيما مضى، وأصبحا شبه متداعيين، ودكان امرأة عجوز مسيحية مغلق بعد سفرها، واِلتحاقها بأهلها في ديترويت، أما العمارة التي يقطنها هو، فهي الوحيدة المضاءة بمولودة كهربائية صغيرة، ذلك لأن الحب معتم لإنطفاء الكهرباء فيه". في هذا النص دلالات كثيرة ترسم صورة قاتمة ارتسمت في عين نبيل تماهت كثيراً ونظرته السوداوية التي تسهم بشكل أو بٱخر في تقوية نوازع هجرته إلى خارج البلاد التي لم تضعف حتى في محاولة أبيه لثنيه عن قرار الهجرة لأنها ستقتلعه كما تقتلع عن تربتها وسيندم على قراره. ومن هذه الدلالات التغير الديموغرافي للحي إذ وفدت عليه عوائل من الطبقة الرثة، وكذلك هجرة المسيحين بعد تعرضهم للعنف الديني من قبل الجماعات السلفية، وكذلك تردي وضع الخدمات الأساسية كتوفير التيار الكهربائي، فكلّ هذه المفردات قد شكّلت هذا الفضاء المحلي الذي تجلّت فيه على نحو واضح تمثل العنف سردياً الذي كان سبباً لهجرة نبيل إلى خارج البلاد.