فاعليّة الرؤية الشعريّة

ثقافة 2024/07/29
...

  د. عمار إبراهيم الياسري 


يُعدْ مفهوم الرؤية من المفاهيم الجمالية التي تشكل المنحى الأسلوبي للشاعر، إذ يعتمد على مرجعيات فكريّة وفنيّة وجماليّة التي عن طريقها تتشكل النصوص، وقد ارتبط مفهوم الرؤية الشعريّة مع التشكيلات الأولى لنظرية الأجناس الأدبيّة التي حاولت وضع تقعيدات فنيّة تضبط أشكالها الفنية، إذ ذهب الفيلسوف الإغريقي "أرسطو" في كتابه "فن الشعر"، في حين ذهبت النقدية العربية القديمة إلى ما هو أبعد وأدق بعد أن جعلت من الصياغات الإبداعيّة الأساس الذي يميز الرؤية الشعريّة المتفردة مبنى ومعنى، إذ وردت مصطلحات مثل ماء الشعر وعروق الذهب بوصفها الطاقات اللغوية والبلاغيّة التي ترقى بالصياغات الشعرية التي تنتجها الرؤية المتعالية، بينما شهدت الرؤية الشعريّة المعاصرة تحولات بنيويّة فارقة مع طروحات المدرسة الشكلانيّة التي مالت إلى تفعيل طاقة النص عبر تقانات مثل التغريب ونظرية الفواعل وعلاقة الوظيفة الشعريّة بالوظائف الأخرى لبنية النصوص.

ومع ظهور الطروحات النقديّة لقصيدة النثر المعاصرة ما بعد كتاب "سوزان بيرنار" أصبح مفهوم الرؤية الشعريّة مختلفًا عما سبق، إذ شُكل النص على ثلاثة أنساق، الرؤية القبلية ثم رؤية التشكيل عبر ثنائية الهدم والبناء فالصيرورة المخاتلة للتشكيل الجديد التي توظف الضربات التي يوجهها الهامش للمركز عبر آليات متعددة تسهم في تشييد النص، وقد انمازت مجموعة "صيف أسمر" للشاعر عمّار المسعودي الصادرة مؤخرًا عن دار الشؤون الثقافية العامة بالرؤية الشعرية المفارقة لقصيدة النثر عبر تأثيثها بآليات نسقية متعاضدة ومتآزرة منها:

1 -التشظي الدلالي: تراهن المجموعة على العلاقات غير المألوفة، إذ يسعى الشاعر جاهدًا إلى تفتيت الموروث وإعادة صياغته مثلما نلحظ ذلك في قصيدته "الهواء أيضاً من هذه المهن" حينما يقول في الصفحة الثامنة والثمانين "أحتاج سفرًا بلا مآب وشجرًا بلا ظلال وثمرًا بلا مواسم كي أقول ولا صوت وأُقارب ولا مسابقة وأتحننُ  ولا شوق" فالتشظي العلائقي في النص يُعدْ من الفوضى المنظمة التي تهدم وتبني علاقاتها الدلالية من جديد عبر مفارقة الدال والمدلول.

2 - المغايرة الصورية: تُعد الصورة في المجموعة طاقة دلالية مكتفية بذاتها، فالذات الشاعرة تعمل في رؤيتها التشكيلية على استدعاء المرجعيّات البصريّة السابقة ثم تثويرها في مرجل الرؤية وإعادة تشكيلها على وفق جدلية الأسئلة تجاه الوجود والموجود، ولو تأملنا قصيدة "عمري الذي في اللغة" نقرأ في الصفحة الخامسة والعشرين "الدائرة هدنة المستنير ورحلة المستمير وبهجة اللمس للبصير وسمة البعيد والقريب" فالشاعر هنا جعل من الدائرة التي رسمها في خياله المكان المألوف الذي يبحث عن الذوات القلقة في رحلتها نحو السكون.

3 - التشكيل اللغوي المفارق: تشتغل المجموعة على هدم التراتبية العتيقة للعلاقات اللغوية عبر كسر أفق التوقع البنيوي للجملة الشعريّة عبر مفاجأة المتلقي بنتيجة مفارقة للبدايات عن طريق الاستدراك والاستثناء والنفي والإزاحة بهدف التفلت من الاستعمال المتواتر وهذا ما تجسد في قصيدة الشاعر الموسومة "محاولة في مسك الوردة" في الصفحة الخامسة والثمانين حينما يقول: "قررتُ إيقافه في أول الطريق ولم يستجب وفي منتصف الحلم ولم يفسّر وفي نهاية مسك الوردة من عطرها، فلم أكن حينها لا في الشم ولا في العطر ولا في التفريق ولا في اللّم، مما عافاه وأسقمني وأعزه وأذلني".

4 - التفاعل الأجناسي: سعى الشاعر إلى ملامسة الأجناس الأدبيّة والفنية واستدعاء جمالياتها بطريقة ضمنت عدم تلاشي شكل القصيدة وهذا ما تسعى إليه قصيدة النثر المعاصرة المتفردة، ومن الأجناس المستدعاة في المجموعة التسريد الشعري والمشهدية السينمائية والتشكيل المسرحي، ومن تمثلاتها الجمالية:

أ‌- تسريد القصيدة: عمل الشاعر على استدعاء التقانات السردية مثل تموقعات السارد والأنساق السردية وتقانات الزمن السردي وسريان الفعل في بنية الحدث في نصوص مجموعته ومن تجلياتها ما ورد في قصيدته "أشجاري التي اتغرّسُها باسمه" في الصفحة الثالثة عشرة: "تقول لي: أذهب إلى غابتي كي تعرف صفاتي وإلى غابتي أذهب فإن منحتني ما يكتب من التضاريس فقد محوتني ومحوت الدليل" إذ نلحظ توظيف السارد المشارك في الأحداث من جهة وتوظيف النسق الدائري لسلسلة الأحداث ثم العودة إلى النسق التتابعي من جهة أخرى، فضلا عن تأثيث المشهد الاستهلالي لانطلاق الفعل السردي عبر كشف المكان – الغابة الذي يعد المنظومة الدلالية المتعالقة مع تمفصلات الحكاية.

ب‌- مشهدية القصيدة: وظف الشاعر في مجموعته تقانات سينمائية مثل المونتاج السينمائي وعمق الميدان الصوري، المستدعاة من الخطاب السينمائي، أي أن تعتمل في اللقطة الواحدة أفعال سينمائية عديدة سواء كانت في مقدمة الصورة أو وسطها أو خاتمتها مثلما نلحظ ذلك في قصيدته الموسومة "ملامة" في الصفحة الثالثة والستين حينما يقول "إن وجدني في البياض لامني، إن وجدني في السواد لامني، إن عالنته لامني أو ساررته لامني، إن وجدني على الأغصان لامني" لقد ربط الشاعر بين هذه اللقطات – المشاهد مونتاجيًا عبر توظيف الأداة "إن" التي حققت له الانتقال المشهدي للزمان والمكان السينمائيين فيما حفلت اللقطة الواحدة بحركية سينمائية متعددة قوامها الشاعر والحبيبة والموضوع.

ت‌- مسرحة القصيدة: حفلت المجموعة بالمسرحة سواء كانت بمبانيها الأرسطية أم الملحمية أم اللامعقول، وقد هيمن البناء الدرامي التقليدي الذي رسمه المنظر الألماني "فريتاج" على نصوص عديدة مثل قصيدة "الصيف حديث في مطبخ" و"محاولة في مسك الوردة"، إذ نلحظ الحواريات التي تسهم في دفع الأحداث وتؤجج الصراع وتفعل الأزمات للوصول إلى الذروة، فالخاتمة المفارقة عبر بنية شكلية تقترب من مثلث "فريتاج" المسرحي.

"صيف أسمر" لعمار المسعودي من المجموعات المتفردة لقصيدة النثر المعاصرة التي تشكلت عبر رؤية جمالية متعالية سعت إلى إعادة تشكيل القصيدة بطريقة فارقة استدعت جماليات نصية ومحايثة لتأثيث مبناها الجمالي الذي ينأى بنفسه عن المتواتر والمتشابه الذي وقع ضحيته العديد من صاغة الشعر وناظميه.