حاتم حسين
في زاوية قصيّة في الذاكرة، ترسّخت من أن الموت يبدأ بأصابع القدمين، هكذا أملت عليَّ جدّتي حكاياتها الأسطوريَّة، لكنّ جنّة الأحلام وبساتينها وأنهارها ظلت تلازمني.
اللهب الذي اخترق صدري لن يُروّعني، أو يؤلمني، بل سافر معي، وحطّني في عوالم مجهولة، لم أكن أراها إلّا في الخيال.
ثَمّة عاصفةٌ هوجاء لكنّي لم أخشاها، بل جلست في ضراوة لهيبها، أتنقل برغبتي، بين مروج وأزاهير، وأوراق الشجر الممتدّة على جانبي الطريق، كم هي جميلة هذه المسرّة، وهذه الألوان القزحيّة.
حشود من الأضواء تسترضيني، تجعلني ناعساً مثل سفينة صغيرة أجلس فيها تهزّها الريح، أغتنم الفرصة لأرسم لوحة شطّت من الذاكرة، لكنّي أراها الآن بعين البصيرة.
قالت جدّتي: عندما يأتيك الموت.. تذكّر أصابع قدميك الباردة؟
لوحة قاتمة أخترقها لهب رصاصة مستعرة، ملعونة لا أدري! لكنّني أسمع لغط الجميع "لقد قتله القناص"
المفارقة عجيبة، فأنا أتقلّب خارج حدود الذاكرة، ولسعة الألم كأنّها سحابة قرمزيَّة خطفت بصري، وأخرى داكنة، وعيون مُحمرّة، وخصل شعر تلامس شعري كأنّي أبتهج وأسرح في بحور من الخيال.
حاول أحدهم استدراجي صارخاً.
(فيه بقية روح)
الأسئلة تتوالى، وأنا باسطٌ ذراعيَّ نحو عالمي المتوحّد.
رأيتُ وجوهاً وحراساً وجنوداً يدخلون حجرتي، يقلّبونني، لكنّ السهرة التي ولجتُ إليها لم تنتهِ.
مخلوق مرعب، ستائر أرجوانيَّة، بصيص شمعة، فتحت عيني. كان الظلام يترصّدني وعواءُ كلبٍ جائعٍ قريب منّي، مددّت يدي لأتأكد من أنّني حيٌّ؟، شعرت بالكلب يقترب منّي، لاطفني بذيله، استغربت لما لم يقضم قطعة من جسدي في هذه الظلمة الموحشة؟
لم تنقضِ هذه السهرة الممتعة الطويلة، فتحتُ عيني على القمر والنجوم المتلألئة في السماء.
صاحت جدّتي لا تيأس ياعدنان، أنت في نزهة الشجرة التّي أسندت إليها ظهري تشقُّ السماء، رفعت رأسي لأصافح خيوط القمر الفضيّة جلت بطرفيّ، لم يكن الطريق معبداً، وثمّة حوافر خيلٍ تدور (إذن أنا في مزرعة؟) إذن أنا لم أمت؟!
نعم ياعدنان إنّك لم تمت، لكنّك ترزح تحت وطء كوابيس ودهاليز مظلمة، الرواق الذي انتقلت إليه مظلماً لم يكن ثمّة فانوسٌ، كلُّ شيءٍ خرب.. ومعطل مجرد لمحة اللا وعي دفعتني للهبوط الى الطابق الأرضي، توقفت.
ساورني هاجسٌ خفيٌّ أن أدلف، لكنَّ جمرة الألم المستعرة أجلستني، فأنا أنزف! لكنّي حيٌّ، أستمع إلى نقرات المطر التي تريد أن تغفوَ على الزجاج.
استفزتني الدقّات المتتالية، لم يكن هناك مطر.. بل ظلال لشبح قائم، تشوّشت، وأنا أحاول أن أفهم هل أنا المقصود؟!
كان الصوت المنبعث قريباً منّي لم ألمحه بوضوح، رأيته منبعثاً من أعماق كرسي قديم ذي ذراعين، مددّت إليه يدي كي أفكَّ الحبال الملتفة حول جسمه وخصره ورقبته، صرخت بوجهه بالله عليك: من أنت؟!
كان جسمه مدمّى تماماً من هول الضربات، أسمع نشيجه في الظلمة الحالكة، يحاول أن يتكلّم عبر أسنانه المتكسّرة: لم ابع نفسي لهؤلاء القتلة، ولم يكن عندي شيء أدفعه لهم، فصاحب القرار هنا أشبه بالزلزال لا يتوانى عن إشباع رأسك بالرصاص.
- لكنّك رجل كبير؟!
- ولكنّه لا يُصغي لصوت الضمير.
- عندما فقدت الوعي بالشارع نتيجة حادث الاصطدام لم أكن أتوقع أن يأتوا بي إلى هنا لهذه المزرعة القصيّة.
- أين هم؟ المكان موحش ياعم.
- سمعتهم يقولون الحملة قريبة من هذا المكان، هكذا فرّوا وهربوا.
- جلت بطرفي فيما حولي، وأنا أمسك بيده، أن نمضي لسبيلنا.
- لكنّه لم يستطع أن يخطوَ استجمعت قواي وحملته على جرحي النازف، كانت الشمس في أوّل بهائها محمرّة كعيون التنّور أشبه بدمعة جدّتي.
- مسحت على عيني لأتاكد من أنّني في يقظة ولستُ في حلم.
- ترى هل سيمضي كلّ شيء للذكريات؟
- هل سأرى وجه زوجتي وأطفالي؟
- وفي غمرة هذه التداعيات ينبثق صوت الجنود، وهم يتفانون لنجدتنا، اِنحنيت لأتلمس رؤوس أصابعي، رأيت صورة جدتي، وهي ترفل بتلك العباءة العراقية الأصلية ممازحة إيّايَّ من أنك كنت في نزهةٍ يا ولدي.