لو يحدثُ ذلكَ ثانيةً

ثقافة 2024/07/30
...

 حبيب السامر

لو حدث لتلك القهوة التي أرتشفها ذاتَ ضحىً في مقهى كاريبو وسط مدينة بيروت، وتحديداً في شارع الحمرا وفكّر بها ثانية الآن، لأسقط تلك الوجوه المحيطة به، أقصد على واجهة المقهى الزجاجية أو في عمقه المحدود، وغيَّرَ المكان قليلاً مع المحافظة على جوهر الحالة التي كان فيها، سيبقى وجهك بإطلالته ثانية كما كان، تقارنه بالحقيقة التي غمرك بها، ستجد فنجانا إضافيا محاطا بأصابعك مع إطلالة الفضاء خارج هذا العالم السحري، الغيوم تغلف جزءاً من زرقة السماء وتحيلها إلى لوحة لم ترسم بعد.
 لو حدث ذلك ثانية، ستجد وجهاً يغمر سطح الفنجان الداكن يحاورك بلغة الوقت ذاته، متنزهاً ببعض موسيقى يدب الحب فيها، ليمنح الجو الممزوج بدخان الأراكيل ببعض لوحات سريالية على جدران المقهى، سحراً مثيراً، وعلى الجانب الآخر تمتد بقعة صاخبة مزحومة بالمحال وحركة الناس بأجسادهم المتسارعة وظلال أشجار مهيبة تذرف ورقاً خريفياً على الرصيف، يأخذك بصرك أحياناً على حلم أُغلق عليه، لأنه أشبه بحقيقة ويدك تمسك الفنجان الفارغ تتحسس المكان. يا لهذا الهدوء، أين غادرت تلك الوجوه، لا تلمح سوى ذلك الوجه الغارق في فنجان فارغ وهو يجلس قبالتك في مقهى كاريبو.
تتقاذفك اللحظة بصمتها المريب وكأنّك شبه غريب جالس في هذا الفضاء الممزوج بدخان وقرقرة أراكيل مجمّرة، هل تبالغ في صمتك إذن؟
تتعرّق يدك، وأنت أتحسس جبهتك المعروقة أيضا، كانت اللمسات الحنونة للفنجان تتكرر وأنت تسند ظهرك إلى جذع نخلة، تتأمل اللحظات المعزولة عنك، والغاطسة في حلم يتكرر.
لو حدث ذلك هذه المرة، ستفتح عينيك على وسعهما وتتفحّص الكائنات الموجودة في كل الاتجاهات لتتحقق من وجودك أولاً في تلك البقعة الصاخبة.. أين كنت في تلك اللحظة؟ هذا السؤال يتكرر دائماً، من دون إجابة كي لا تعكر صفو الحلم وأنت أتأمل قول هيلين كيلر "نحن لا نموت حين نفقد من نحب، فقط نكمل الحياة بقلب ميت"، يا لصعوبة الموقف حين يكون الغياب ورقة الهبوب العاصف لبعض وجوه كانت تسبقك إلى المقهى، وقد تسبقها أحيانا، كانت النوايا حسنة  تماما بين الأطراف جميعها، لكن طقوس اللحظات القريبة من النفس لا تتكرر عادة، فهي حبيسة زمن يلقي بظلال وجوه لا تشبهنا ربما، لذلك يكون طعم القهوة مختلفاً هذه المرة بحكم ما يحيطنا من مواقف ووجوه تلاشت في طرقات بيروت، واختارت زوايا في أماكن أخرى لتتجاذب أحاديثها هناك، وترسم ملامحها في فنجان فارغ تحت سماء غائمة، أو تحت ظلال لوحة سوريالية كانت معلقة على جدران مصقولة بطلاء هادئ.
هذا يحدث دائماً، حين تأخذك فكرة طريَّة نحو مكان مزحوم، تتشابك أغصان أشجار الرصيف لترسم بذلك لوحة حيوية تضيف بهجة لذلك الجو المتناسق مع حديث مع أول امرأة صادفتها على طاولتك ليظل الفنجان فيها ساخناً، والحديث عن الحياة يتخذ أشكالاً ساحرة، كأنَّ الزمن يعيد نفسه في المكان ذاته!