أحمد عساف
"مسخ كافكا" العرض الذي قدم على مسرح القباني بسورية، وكان من تأليف وإخراج فيصل الراشد وتمثيل رايسا مصطفى، يوحي عنوانه إلى أنه اقتباس عن رواية المسخ للروائي فرانز كافكا، إلا أنه وبعد مشاهدة العرض سنكتشف أن النص لم يتكئ على مسخ كافكا، فقط عند تحول البطلة "فاتن- رايسا مصطفى"، وتنمسخ إلى فرس أصيلة.
منذ المشهد الأول للمسرحية سنجد لجام الفرس على فمها الذي تزيحه بكل قوة عنه وتضعه على رقبتها، كدلالة بصرية وترميز، وتهيئة المشاهد لحالة فكريّة تمهّد وجود الخيل، وهي كثيراً ما وظفت اللجام كنافذة تتحدث عبرها مع أمها، أو في البحث عن ابنتها
"مريم".
قارئ رواية كافكا يعرف أنّها تبدأ بالمسخ:"استيقظ غريغور ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم". هذا لم نجده في مسرحية "مسخ كافكا".
العرض تحدث عن حياة موظفة سورية في السجل المدني في فترة الحرب على بلدها، حين يخذلها حبيبها "خليل" وينكث بعهود زواجهما ومستقبلهما، ويهاجر إلى أوروبا ويتركها لأحزانها، وحيدة مع أمها، فتشعر فاتن بصدمة حب عنيفة، تدفعها لقبول الزواج من زميلها في الوظيفة، على الرغم من كره والدتها وصديقتها سعاد له، تتزوّجه وتنجب طفلة "مريم"، ثم يتحول زوجها لمتطرّف ديني يتبنّى خطاب الإرهابيين، ويطلب منها أن ترتدي الحجاب، تعيش معه أسوأ أيّام حياتها، فتقوم أمها بطرده من المنزل.
وهنا سنعيش بعض الحالات بإسقاطاتها الفجائعيّة، ليس على سورية فحسب، بل على بقية البلدان العربية التي مسها الأذى من حروب وفقدان للهوية، ومع تسلسل أحداث المسرحية، سنجد أن زوج فاتن وبعد طرده من المنزل، يكتب فيها تقريراً قاسياً تقاد على أثره إلى زنزانة منفردة ويمارس عليها كل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، تقول باكية: "كان خوفي على ابنتي مريم تركتها على السرير ترضع من صدري، لكنّها الآن وحيدة وربما تموت جوعا"، وحين تخرج من الزنزانة وتعود تصهل صهيلاً محزناً وتقول: "أتعتقدون أنني الآن بعد أن أصبحت فرسا أصيلا، هل يستطعون اعتقالي، ويفتشون ثياب أمي التي ذهبت لتشتري لي نبيذاً، لقد تحول النبيذ لي دواء بعدما ضاقت بي الحياة، وإذا أردتم أن تأخذوني معكم فأعطوني بعضا "من النبيذ".
هنا نجد أن نص فيصل الراشد، وهو ممثل وكاتب ومخرج مسرحي، درس المسرح في الأكاديمية العليا للفنون المسرحية في براغ، ليس فيه أي اتكاء على نص المسخ لكافكا، فقط حين تنمسخ "فاتن" من امرأة إلى فرس أصيلة تصهل بكثير من الحزن والقهر، على بلدها وعلى بلاد عربيّة أدماها ودمرها بما أسموه الربيع العربي. خاطبتنا كجمهور قائلة: "أخيراً أرسلوا لكم رقصة الربيع العربي.. تقطيع الجسد. حتى تقطعتم من دولة إلى أخرى، ومن حي إلى آخر. كنت أنتمي إلى هذا القطيع، ولكن بعد أن قويت حوافري لن أعود إلى قطيعكم هذا وإلى
الأبد".
من المعروف أن مسرح المونودراما هو من أصعب الفنون المسرحية، حيث أن ممثلاً واحداً يقف قرابة الساعة وحيداً على خشبته، هذا ما حققته الفنانة رايسا مصطفى، ونجحت في الاشتغال على تلوين الحبال الصوتية وتعابير الوجه والجسد، وكذلك مخارج الحروف وسلامة
نطقها.
كان التنويع في جمل قصيرة جداً من اللهجة البدويَّة إلى الساحليَّة والشامية، محاولة من جسر الهوة بين الجمهور والعرض، وبين الفصحى والجمل القليلة جداً بالمحكي، كتشكيل هاروني يقترب كثيراً من المسرح الحداثوي المعاصر، والفرز بين المونولوج المسرحي، والمونودراما المسرحية على الخشبة. أما سينوغرافيا العرض فقد كانت ناجحة من حيث الإضاءة والموسيقى التصويرية، مروراً باستخدام نافذتين معلقتين في سقف المسرح، واحدة بإنزال صورة زوج "فاتن" وانتقامها من صورته، وثانية في مشهد إنزال الطفلة
"مريم".
في هذه المسرحية ثمة جدران سوداء، وخلفية صغيرة توحي بشكل حمام، بل من خلال "الدوش، والليف، وسطل وصنبور الماء، كذلك الطاولة الصغيرة، التي تم استخدامها في أكثر من مشهد بنجاح، وزجاجات خمر فارغة، تم توظيفها كإيحاء بصري دلالي تجلى ذلك في بحث "فاتن" عن خمرة تخدر أوجاعها ومسخها، وهي تقول لأمها: "أماه لماذا تأخرت في جلب النبيذ. حسناً قولي لمريم أن تأتيني بزجاجة
نبيذ". يصلها صوت أمها "مريم ماتت مع بقية الأطفال في المدرسة التي فجّرها الإرهابيون"، وهنا تبكي وتنهار وتصرخ، ليسدل الستار على العرض
المسرحي.