إيمان المحمداوي
يتفق أغلب الباحثين والنقاد أنّ رواية الفتيان باشتراطاتها الفنيّة، وخصوصيّة ضوابطها التي تقيّد حرّية الكتابة، لا يمكنها تحقيق المتعة القرائيّة إلا إذا وظفت ما يجعل ميلهم إليها عاليَّاً، وتواصلهم معها سهلا وميسورا، ويعدّ هذا الأمر شاقّاً وإشكاليَّاً في الوقت ذاته؛ لأنَّ التداخل بين تحقيق الإمتاع للقرّاء الفتيان والقرّاء الكبار، يحصل عبر خيط رفيع يُعيد الكبار إلى مرحلة المراهقة المبكرة، أو ما يجدون من شخصيات وأحداث مشابهة لما عاشوه أو افتقدوه في تلك المرحلة، لا سيما أنّ اللغة في سرد الفتيان قد لا تختلف كثيراً عن السرد المكتوب للكبار، على الرغم من أنّها تميل إلى بساطة المفردة والابتعاد عن الكلمات المبهمة، وإنما يتمركز الاختلاف في الموضوعات التي يتم تناولها، والطريقة التي يرى بها الفتيان العالم، ويفسّرونه، ويتأثرون به. إذ لا بدَّ أن تناسب اللغة جماليات السرد؛ مما تدفع الفتيان إلى إعمال المخيّلة، والرهان على وعيهم ومدركاتهم، فاللغة -كما هو متعارف عليه- وعاء الأفكار التي تُصاغ في سياقات التخييل الروائي.
ويبدو أنَّ الاهتمام برواية الفتيان في الآونة الأخيرة، جاء متماشياً مع الاهتمام الاجتماعي والثقافي الذي احتضن هذه الفئة المرحلة القلقة، إذ تعد أقرب المراحل للتمرّد، وأشدها في السعي إلى الترفع عن الطفولة، والتماهي مع مرحلة الشباب. وعلى أساس ما تقدّم، فإنّ رواية الفتيان تمثّل تحدياً كبيراً للكتّاب؛ لأنَّها تخاطب قارئاً متمرداً، ومؤثثاً بالتغيّرات التي يمرّ بها، ويتطلب إمتاعه وإقناعه في الوقت نفسه قدرات ذات فاعلية عالية، ومهارات احترافية لا يقدر على توظيفها كل روائي؛ لأنّها تتوجه إلى أناس هم في مرحلة المراهقة، أو على عتبة الشباب عبر قضاياهم الخاصة بهم، والموضوعات التي تهمهم، طالما أن الأدب قادر على اكتشاف النفس البشريّة، والتعبير عن تحولاتها والصراعات التي تتعرض لها، ومن ثم فهو لا يعدم تأثيره على القراء والمجتمع عموماً. كما انها تنحاز إلى الحلول المنطقية والواقعية تارة، وتنتقل إلى المغامرة المحفوفة بالمخاطر في الخيال العلمي تارة أخرى، وتجعلنا أمام المعرفة في مواجهة الخيال، أو وضع العلم في مواجهة الخرافة تارة ثالثة.. وهكذا.
ولأنّ رواية الفتيان كغيرها من الأنواع الروائيّة لا يمكننا فصل الحدث فيها عن "البطل"؛ كونه الشخصيّة المحوريّة التي تنبني عليها الاشتراطات الفنيّة الأخرى، ولا سيما الحدث، فإنّ لهذا العنصر هيمنة واضحة في وقوع الحدث أولاً، والنسيج العام للرواية ثانياً، وإذا كان هذا الاشتغال مشتركاً بين الأنواع الروائية كلّها، فإنّ خصوصية الشخصية في هذه الرواية تنبع من حاجة الفتى إلى تقليدها؛ لذا لا يمكن أن تكون شخصية نمطيّة، وإنما شخصية مختلفة، ولا بدَّ أن تتحلّى بصفات مغايرة، ومنها "البطولة"، التي لا يجدها القارئ "المراهق" حسب د. نجم عبدالله كاظم- في الحياة والواقع، بل في المتخيّل؛ لأنّ الشخوص أو الأبطال في هذه الرواية تمنحه القناعة مع "المثال" الذي في داخله، ولهذا يشكل البطل الإيجابي ضرورة لهذه المرحلة العمريّة، بوصفه المجسّد الحقيقي لأحلام الفتيان وآمالهم ورغباتهم وتطلعاتهم. والبطل الإيجابي هو الشخصية التي تحظى بالاهتمام الكبير، توجّه الأحداث، وتقود الصراع، وتنفرد في "قدرتها على صنع الأحداث، والمشاركة في تطورها، واغتنام الفرص لكي تسهم في تشكيل حركة الحياة، والتأثير في من حولها من الشخصيات، واتخاذ مواقف إيجابية في انفعالاتها ومشاعرها، ومواقفها من الآخرين.. بناء الرواية، عبد الفتاح عثمان ص120". علماً أنّ مفهوم البطل لم يرتبط بعصر معيّن من دون غيره، ولا دولة محددة من دون أخرى. وهذا يعني أنّ تفاعله مع طاقته في التغيّر والإفادة من التفاعل اليومي والمصيري الذي يختص بهذا المجتمع أو ذاك، يقاس بمدى تأثيره في تغيير الأحداث، واقتناع القارئ بنتائج الدور الذي يؤديه. ويعد البطل الإيجابي في رواية الفتيان هو الشخصية المهيمنة التي تلبّي حاجات الفتى الشعوريّة ونوازعه النفسيّة، وتعبّر عن أفكاره وتطلعاته، وتجسّد ميوله
واتجاهاته.
لذا يتماهى القارئ مع البطل، ويتفاعل معه إلى حد التقمّص العاطفي كما تقول حلا حمزة كاظم، فيغمره الفرح عندما يغمر البطل، ويشعر بالخيبة والحزن عندما يحزن البطل. ولا تتحقق البطولة في رواية الفتيان بالتحدي وأفعال الخوارق، والاستبسال في الحروب، وإنما في تجاوز المصاعب، وتسخير العقل عند الشدائد، والإصرار على تنفيذ ما يراه إيجابياً على مستوى الفرد والمجتمع، وتمسكه بالعزة التي تحفظ له هيبته، والدفاع عن الشرف، والإقدام على الكرم، ومعاملة الجار معاملة حسنة، وإغاثة الملهوف بكل ما يستطيع من قوة، وإطعام الجائع حتى وإن قصّر على نفسه.. وغيرها من الينابيع التي تغذي نهر البطولة التي تعني "الغلبة على الأقران، وهي غلبة يرتفع بها البطل عمّن حوله من الناس العاديين ارتفاعاً يملأ نفوسهم إجلالاً وإكباراً".
وقد تجسّد ما قلناهُ في أغلب روايات الفتيان، على سبيل المثال لا الحصر، رواية "العهد" لهيثم بهنام بردى، و"أجنحة النار" لناظم مزهر، و"المدن المخفية" لعماد دبوسي، وغيرها من روايات كان البطل فيها هو الشخصية المحوريّة، وقد تمّ تجسيدها بشكل إيجابي، فالبطل فيها يتميز بالشجاعة الفائقة، والتحدي القوي، والإصرار العنيد، والذكاء الحاد، وغيرها من مميزات تحوّله من شخصية عادية إلى "مركزيّة"، توجّه الأحداث وتقود الصراعات، بل تعمل على إدامة الحراك السردي، واللعب بالممكنات السرديّة، وتوظيفها لصالح توصيل أفكاره وأعماله إلى الشخوص الآخرين. ولا تقتصر هذه البطولة على الفتيان فحسب، وإنما نجدها عند الفتيات أيضاً، لا سيّما أنّ الفتاة في العصر الحالي تؤدي دوراً محورياً في رقي المجتمع؛ كونها عنصرا أساسيا في إحداث عملية التغيير فيه. ونجد هذا في أغلب الروايات التي تكتب لفئة الفتيات، على سبيل المثال لا الحصر، رواية "الخطأ القاتل" لميسلون هادي، و"قصة شمسة" لوئام غدّاس، و"فلافل النازحين" لسماح ادريس، و"أصدقاء ديمة" لسناء شعلان، و"لا تنسوا روزاليند" لحسن صبري، وغيرها. وسنقارب هذه الروايات وغيرها في مقاربات إجرائية تتناول البطل ضمن الاشتراط الفني الأساس في كل عمل سردي، وهو "الشخوص" وكيفية رسمه وتقديمه للقارئ.
قد لا يقتصر دور البطولة على الفتى أو الفتاة فحسب، لما تمتلك رواية الفتيان من رابط قوي مع مرحلة الطفولة الناضجة، فقد يلجأ الكاتب إلى الأسطورة أو المتخيل وهذا ما نجده جلياً في العديد من روايات الفتيان، لا سيما الكتّاب الذين تباين نتاجهم الكتابي بين الصغار والفتيان مثل طلال حسن وغيره، ففي روايته "طفل من خرق" كان البطل متخيلاً مصنوعاً من خرق، وفي "ابني الديسم ميشا" كان البطل صغيرَ
الدب.