{شامان} رواية الصقر والإنسان

ثقافة 2019/06/15
...

 
حازم مبيضين
 
يسعى شاكر نوري، في روايته “شامان” لسبر غور العلاقة بين الإنسان والصقر، ذلك الكائن الجارح، الذي يتميز بالذكاء، والقوة، عبر حكاية تقوم على ثلاثة شخوص، هم الأمير إيهاب، ويوسف البازيار، ونور الدين، محقق المخطوطات، فضلا عن الراوي الذي يعد خارج هذه الحسبة. وهو شابٌ مقيمٌ في باريس يتردد إلى أحد المقاهي الواقعة على شاطئ نهر السين، ليقرأ ذات يوم عن رحلة جماعية للصحراء، فيدفع به الفضول للمشاركة في  تلك الرحلة، بيد أنه في الأثناء تاه عن المشاركين، وضلَّ في الصحراء إذ وجد نفسه وسط الكثبان الرملية المتحركة، وكاد أن يفقد حياته قبل أن تلوح على نحو مفاجئ السيارة التي تقل المشاركين في الرحلة، ليعود مرة أخرى إلى باريس، حيث تسوقه قدماه إلى مقهىً آخر يلتقي فيه أحد المقيمين العرب ممن تلوح عليهم إماراتُ النبل، وما هي إلا أيام معدودات حتى باتا صديقين ، واللافت أنّ حكاية هذ الأمير حكايةٌ لا تخلو من غرائب، فهو يحب الشعر النبطي، ويؤمن بحقيقة أن التاريخ أبو العلوم، ولا يأنس للشعر الحديث فالمتنبي في رأيه هو آخر الشعراء، ومن جاؤوا بعده لا يعدون في الشعراء. يقرأ جريدته اليومية في هذا المقهى الذي يتردد إليه بصفة دائمة، وهو لا يعرف لمَ سُمّيَ مقهى غويا، حتى أوضح له السارد أن فرانشيسكو غويا فنان إسباني عظيم اضطر لمغادرة بلاده، والعيش في المنفى، فهو والأمير سيّان، إذ اضطر كلٌ منهما للعيش منفيًا في المدينة 
نفسها باريس.
على أن الحديث المتواتر بين السارد والأمير إيهاب قادهما إلى التركيز على الصقر “شامان” وهو اسم أطلقه الأمير على الصقر الذي اصطاده وتمكّن من تدجينه بعد أربعين يوما من التدريب المتواصل، وبعد زمن طويل اعتاد كل من “شامان” والأمير على صاحبه، وفي ظروف تزامنت مع الانقلاب الذي أودى بالنظام الملكي ببغداد، غادر شامان سيده الأمير، وطار محلقا مبتعدا في سماوات نائية، ولم يعد. وعلى الرغم من أن الأمير يحيا في باريس، وعلى الرغم من مرور سنوات على ذلك، إلا أنه لا يزال يحيا على ذكرى ذلك الصقر، ويحلم باستعادته، وذلك في إشارة من  الكاتب لرغبة هذا الأمير في استعادة ملك آبائه التليد في إمارته جانين. وقد بلغ توقه لاستعادة هذا الصقر مبلغًا يفسره ما رواه للسارد عن استخدامه عددا من الصقّارين يقودهم مستخدمه الخبير يوسف البازيار، ورحلاتهم إلى الصحراء التي قطعوا فيها آلاف الأميال برا بسبب الحصار المضروب على العراق. وذلك من أجل أن يبذلوا أقصى ما يستطيعون لإعادة الصقر. وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة، وبالرغم من أن البازيار لم يكن صقّارا عاديًا، إذ أمضى سنوات حياته صقّارا في البلاط الملكي العراقي، إلا أنه أدرك، أن هذه الرحلة ستكون رحلته الأخيرة في الصحراء، لا سيما وأن عمره يقارب السبعين، ولم يعد يسعفه لخوض مغامرة كهذه، فلسان حاله يقول: لم تعد مخاطر صيد الصقور تهُمُّني الآن. أما الذي أغراه بهذه الرحلة، فهو رغبته في مساعدة الأمير على الشفاء من معاناته، وعذاباته، وإطلاق أحلامه، ورغباته، باستعادة “شامان” وفي ذلك ما فيه من تأكيد المؤلف للبُعد الرمزي، ولدلالة الصقر هنا.
بهذا يكتبُ السارد الكلمة الأخيرة في حكاية “شامان” لكنَّ الحكاية تستمر على نحو آخر. إذ يواصل السارد قراءته لرواية موبي ديك لهيرمان ميلفيل، التي أشار إليها في مستهل الرواية، عندما سأله إيهاب عن حبه للشعر، فقال مجيبًا: إنه يحبه، ومع ذلك يقرأ الرواية، وكانت موبي ديك بين يديه. ويبدو أنها بقيت قيد القراءة حتى نهاية الرواية عندما يتجه الحديث بين السارد والأمير لبحر الظلمات – المحيط الأطلسي- كما سمّاه الرحالة، والجغرافيون العرب، في أدبهم الجغرافي
“شامان” رواية لا سيرة. بمعنى أن الكاتب لم يرد أن يقدم لنا فيها سيرة الأمير إيهاب. وليست رواية تاريخيّة، وإن كانت لا تبرأ من التاريخ، إذ تشير إلى حقبة الاستعمار في الخليج، والصراع على المنطقة بين إنجليز وفرنسيين، ونشوء بعض الممالك في جزيرة العرب، وما جاورها، لا سيما العراق، فضلا عن إشارات لسقوط النظام الملكي ببغداد في تموز 1958 وما أعقبه من رحيل بعض الفارين من النظام العسكري إلى باريس، وهي ليست رواية سياسية، واجتماعية، وإن كانت توجه أصابع الاتهام لسياسيّين وصلوا إلى السلطة عن طريق القوة الغاشمة التي لا تستطيع التفريق بين الإجراء الصحيح والإجراء الخاطئ. علاوة على ذلك كله، يمكن أن تعد هذه الرواية، وتصنف، في رواية الرحلة، التي تتنقل بشخوصها، وبقرائها، من الصحراء في المشرق العربي عبر البحر في: الاسكندرية، والمتوسط، ومرسيليا، وباريس، فدوفيل، فالنجف الأشرف، عدا عن الصحراء بكثبانها الرملية الذهبية، ولياليها المقمرة، وطيورها الجارحة. فهي بهذا رواية فيها شيءٌ من كلّ شيء، وتأخذ بألوان الأدب من
 كل لون بطرف.