فتوى الجهاد الكفائي خالدة في ذاكرة الوطن

آراء 2019/06/15
...

د. علي الشكري
 

في الكون بعض الظواهر التي تشغل العقل بسرها، فتذهب التفسيرات تترى، مرة على أسس علمية في محاولة لاكتشاف ما خفي، وأخرى لا تخرج عن التكهنات مكابرة عن ما عجز العقل عن تفسيره . المرجعية الدينية العليا ظاهرة شغلت العالم المتدين وغيره منذ أكثر من ألف سنة، كيف نشأت ؟ ولما ؟ وما هو سر زمانها ؟ واستمرار مكانها ؟ بالرغم من محاولة الداخل والخارج، من طغاة العصر لإخراجها . فحكمتها تؤرق، وزهدها يرعب، وصمتها يخيف، وقولها يهز عروش، ومواجهتها تهلك ملوك، وربما كان تعففها وغناها عن الدولة والحاكم والقابض هو ما أخاف المتعاقبين من الماضين والحاضرين .
لقد عاشت المرجعية وعلى مدى عمرها المديد، وهي تقارع الظالمين، وتدافع عن المظلومين، وتنتصر للمقهورين، وتذود عن المضطهدين، وتقارع الجبارين، فما هادنت ولا هانت ولم تخضع للظالم لا ترهيباً ولا ترغيباً . ومن أدعى الانتماء والوصل والانتساب، ومن زُج زجاً، وأندس بين جنباتها، فراح يتكلم باسمها، في محاولة للمساس بمقامها انكشف وزال، لكن محاولات الطغاة للمساس بها لم ولن تنتهي حتى قيام الساعة .
المتتبع لتاريخ المرجعية الدينية العليا، والمطلع على اليسير من أرثها، يعلم جيداً أن عصر من العصور وحقبة من الحقب لم تمضِ من دون أن تكون نصب أعين الطغاة عداء وبغضاً واستهدافاً، كيف لا وهي تشخص وتعترض وتقاوم وتقاتل إن أقتضى الأمر، فتاريخها سلسلة من المواجهات والتحفظات والاضطهادات، فناصبها المتقدمون والمتأخرون من الطغاة العداء، وراحوا سيتهدفونها بطشاً وتنكيلاً وتهجيراً وقتلاً، وهذا دليل سموها وتساميها، وسر بقائها واستمرارها، حتى يأذن الله بظهور ولي الأمر، القائم المنتظر، القاهر لكل قاهر، المنتصر لكل مظلوم، مقيم دولة العدل ومزيل دولة الظلم .
لقد كانت المرجعية الدينية العليا المحطة الأولى التي استوقفت الاحتلال وهو يكسر أسوار العراق الذي انهكته الحروب، وأوهنت قواه سياسات النظام الزائل، وأذل الحصار أعزة قومه، ورفع الطغاة أراذل قومه وأذلوا أعزته . كيف لا والمحتل قرأ تاريخ المرجعية جيداً وتبحر بمواقفها، وحلل عناصر قوتها، وراح يتتبع سيرتها، فوجدها الحصن المانع، والجدار الكاسر، القوي الذي لا يهادن، الحكيم الذي لا يُجارى، الزاهد الذي لا يستمال، الشعب ضالته، الوسطية دليله، الضعيف هدفه، الانتصار للمظلوم غايته . فكانت أولى محطات الاستهداف، فراح يُرغّب ثم يُرهّب، فلم يجد إلا ما قيل عنها حكيم زاهد قوي متأن، الدنيا لا تستميلها والتلويح بالقوة لا يثنيها، فراح يشيع ويشوه ويدس ولا نتاج لما سعى، ولا نجاح لما حرص . كيف لا وهي تحسن لمن أساء، وتمد يد العون لمن استهدف، خطابها ينزع الفتيل، التمييز ليس في أجندتها، والانتصار للمظلوم هدفها، غير المسلم نظير في الخلق، المسلم نفس، المعتدي مرفوض مردود وإن انتمى، الظالم مستهدف بصرف النظر عن انتمائه وانحداره، فهي لم تقارع سلسلة الحكام الماضين لانحدارهم الطائفي ولكن لسياساتهم المنحرفة واضطهادهم الشعب وظلمهم
 وقهرهم . 
لقد حرص المحتل جاهداً على المساس بالحصن الشامخ، الذي حذر من احتلاله قبل أن يقع، ومن سياسته التفريقية قبل أن تطأ أقدامه أرض العراق، فأدرك جازماً أن أمد احتلاله قصير، ورحيله واقع، ومخططاته ستفشل، وتقسيمه للموحد لن يقع، وفتنته زائلة لا محال . فعمل على تمكين من شحت عليه السماء، وقحط عنه التاريخ والجاه، ففتح أمامه أبواب السحت الحرام، فراح الذليل يعبث بالمال والتاريخ، في محاولة للإساءة للمظلوم، الذي قضى جل تاريخه مشرداً مستهدفاً مظلوماً، فحول المظلوم إلى ظالم، والنزيه إلى فاسد، والمعتدل إلى متشدد، والعالم إلى جاهل، لكن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس خالد باق .
لقد شهد القاصي والداني بحكمة المرجعية الدينية العليا، التي لم يُثنها استهداف الداخل والخارج، من أبناء الطائفة وغيرهم، ولم يفت بعضدها اتهامها بالصمت وعدم المواجهة، فالحكمة قوتها، والصبر سلاحها، وتجاوز الإساءة منهجها . 
لكن محاولات المشكك المرجف ظلت قائمة في محاولة لاختراق الجدار الحصين، فكانت فتوى الدفاع الكفائي التي أسقطت مخططات، وأنهت محاولات، وكشفت خفايا أروقة راحت تخطط وترسم وتمول وتشتري ذمم . لقد راحت بغداد قاب قوسين من السقوط، إذ دقت قذائف الإرهاب بيوتها الآمنة، بعد أن انتهك التنظيم الضال حرمات الآمنات من النساء، فشرد المسالمين، وقتل الرجال ورمل الأطفال وهدم الآثار فجاء على الحرث والنسل، فلم يبق مُحرم إلا وأصبح هدف ممكن المنال .
ولم تسقط المحافظات الآمنة تترى لقوة الإرهاب ومنعة القائمين عليه، وعقيدة المخططين له وإيمان المنفذين له، ولكن لذهاب القائمين على أمر الحكم في طغيانهم يعمهون، المغانم شغلتهم، ولذة الحكم لعبة برؤوسهم، شذاذ الآفاق مقربيهم، والمنافقين ثقتهم، والكاذبين مصاديقهم، المخلص عدوهم، والصادق مستهدفهم، والوطني خائنهم، والنزيه سارق لهم، والفاسد مقرب إليهم، وخطابات المرجعية الدينية العليا تتوالى منذرة ومحذرة وملوحة بخطر إن وقع ستأتي آثاره على الجميع، لكن الآذان الصماء هي الرد . فكانت الكارثة الكبرى التي لم تترك قومية أو دينا أو طائفة إلا ومسته إيذاءً، فقتل السنة والشيعة والكورد والتركمان، وكان المسلم والمسيحي والإيزيدي والصابئي والشبكي هدفا ومستهدفا، وراح مال الآمنين مباحا لسراق الأرض الوافدين ومن تفضلت عليه أرض العراق . وأمتلأت أرض العراق مقابر وقبورا، وترملت مقتبلات العمر، وتيتم الأطفال، وسبيت النساء، بذنب من لعبت السلطة بعقله فنسي ظلم الأمس القريب وراح ظالما مضطهدا، ويحدثونك عن سر خلود المرجعية العليا .
ما أشبه اليوم بالأمس القريب، حينما حذرت المرجعية من القهر والظلم وانتشار المفاسد، والتمييز في المغانم، وتقريب المنافق، والاستماع للأفاق، وعادت نذر الإرهاب كما بدأت أول مرة، فأصبحت تستهدف الأمن، وتهدد المسالم، وتزرع بذور الفرقة، وتفرق من اجتمع، ومتخذ القرار يعتقد أن ما يجري تناقله مهول، وما يجري حوادث فردية، وما يقع لا يخرج عن حماقات خلايا يائسة، الحرائق معتادة، والقذائف المتناثرة لا تهدد الأمن، وتشاحن المتخاصمين لن تأتي نيرانها على العراق، الفساد ليس وليد اليوم، ومكافحته تستلزم الوقت، لا حاجة لضرب رؤوس الفاسدين فهم شركاء في الحكم إن لم يكونوا هم الحكام، الوزارة تعمل بالأصالة أو الوكالة، الوكالات لا ضير فيها، والبطالة أمر معتاد، اطلاق الحدود في مصلحة البلاد، والوقوف في وجه الظلامات فيها العداوة والشحناء، ترحيل الأزمة مفضل، ووقف التمدد مؤجل، الحفاظ على القائم إنجاز، والشروع للمستقبل فيه محاذير . والحصيلة خرق أمني، وتراجع مجتمعي وضعف اقتصادي، وما تحذير المرجعية في خطبتها الأخيرة في 14 / 6 / 2019 إلا تنبيه  للقائم وإنذار لما سيقع، فأرواح الناس وأموالهم وأمنهم ليست رخيصة يسيره على من أعتقد أن المرجعية ستقول قولتها الحافظة إذا ما تعرض أمن البلاد واستقرارها للخطر . فهي اليوم تقف محذرة وفي الغد ستقول قولتها الناصرة المنتصرة، فالحكام إلى زوال والشعوب باقية، والمرجعية حافظة، والسعيد من اكتفى
 بغيره .