الرابطة العربيّة الأكاديميَّة للفلسفة
د. عدي حسن مزعل
في المرحلة الثالثة من الدراسة الجامعيَّة، وتحديداً عام 2004 تعرفت إلى د. علي عبود. كانت علاقتي به وقتها طبيعية كأي زميل آخر، وأذكر جيداً أنني مذ عرفته لمحت فيه نشاطاَ وفاعلية ميزته عنا جميعاً. لم يكن النشاط وقتها يتعلق بالدرس الأكاديميّ، الذي كان متميزاً فيه على أية حال، بل كان نصيبه الأكبر منه موزعاً على مشاغل عدة.
حظي الانهماك بمشكلات الواقع الجديد ما بعد عام 2003 - والصراع مع بقايا النظام السابق بحيز واسع منها، تحركه عقيدة دينيَّة وإيمان بأن ما قبل عام 2003 صفحة يجب أن تطوى.
توثقت علاقتي به أكثر بعد أن قُبلنا سوية في الدراسات العليا، أي في الفترة التي بدأ فيها أن مشكلات الوضع الجديد لم تنته، وأن صفحته عصيّة على التغيير إلى حد ما. مرت هذه المرحلة بكل صعوباتها وأزماتها، بما هي مخاض عسير بشيء من التّذمر والنفور، من واقع رأينا سوية أن نشاطه فيه جعله شخصاً مثيراً للجدل. ورغم أن هذا النشاط لم يخل من ملاحظات، فإن البعض - خصوصاً أنصار التغيير- اكتفوا بالنقد دون العمل، فيما هو اختار الاثنان معاً، مطبقاً المثل المشهور: (من لا يعمل لا يخطأ).
وهكذا وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: أما الاستمرار مع قضايا ومشكلات الواقع الجديد الذي خبر الكثير من تعقيداته بل وإحباطاته، وفي ذلك الخيار ما يستهلكه، أو نوع من "العزلة النسبيَّة" التي تتيح له خياراً ثقافياً آخر هو أقرب إلى نفسه.. التقط الخيار الثاني، فتبدت نتائجه واضحة وسريعة في رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه، ولا سيما الأخيرة التي حظيت بنصيب وافر من الرضى والاستحسان. انطلق بعدها، أو بعد أن لمس فوائد العزلة النسبية صوب مشروع آخر يتعدى فضاء الجامعة، أو قل هو نوع من التمرد على مهنته
الضيقة.
كان هذا المشروع الذي أسسه بمعونة قلة قليلة من الباحثين محمد شوقي الزين، إسماعيل مهنانة هو "الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة"، التي ضمت وفي غضون فترة قليلة عدد كبير من الباحثين، ومن مختلف الدول العربية، وساهمت بشكل لافت للنظر في اغناء المكتبة العربيّة بعدد غير قليل من الدراسات، وفي شتى الموضوعات والحقول المعرفية، أكان ذلك على صعيد إصدار "كتب فردية" أم على صعيد "الاستكتاب الجماعي"، العلامة الأبرز في نشاطات الرابطة.
مثّل نشاط "الاستكتاب الجماعي" الذي أداره باحترافية عالية مغامرة جريئة أساسها طريق نادر المأتى في ثقافتنا: جنسيات مختلفة، أقلام متنوعة، تكتب حول موضوعة واحدة.. شيء قريب من حوار الأفكار، يجد القارئ في أي إصدار من إصداراته تعدد في القراءات والرؤى هو من الغنى والثراء. ولعل أبرز متون الاستكتاب الجماعي: (مدرسة فرانكفورت النقدية، الفلسفة والنسوية، فلسفة التاريخ، الماركسية وما بعدها، فلسفة التأويل، فلسفة الدين، خطابات الما بعد، الفعل السياسي بوصفه ثورة). ويقف على رأس هذه المتون "موسوعة الأبحاث الفلسفية" بشقيها "الغربي/ جزآن/ بإشرافه" و "العربي/ جزء واحد/ إشراف وتحرير د. إسماعيل مهنانة". امتازت هذه الموسوعة بما جعلها تتجاوز بعض الموسوعات الفلسفيّة، العربيّة منها وحتى الغربية، فهي أعلى رتبة ومقاماً، لأنها لم تكتف بالعرض الموجز لأسماء الإعلام، كما هي عادة معظم إن لم يكن جميع الموسوعات، أنها إلى ذلك تتضمن التأريخ والعرض معاً، وتذهب صوب "الدراسة" لأسماء الأعلام، وهذا هو ما يميزها ويجعلها
أفضل لجهة الفائدة التي تمنحها للقارئ.
وسط هذا الحوار الثري "الاستكتاب الجماعي" دفع بـ "الأكاديمي العراقي" وبقوة إلى جانب أسماء عربية أخرى. وتلك حالة نادرة قلما توافرت للأكاديمي العراقي، ولا سيما المتخصص في الفلسفة. يعلم هذا الأخير كيف أن أبحاثه بقيت حبيسة مجلات جامعية وأحياناً محلية قليلة التداول. أما كتاباته فيعلم أكثر مدى الصعوبات التي يواجهها حين يقدم على طباعتها خارج بلده، يستنزفه الروتين وأحياناً الأجور، التي تفضي بالبعض على هجر الأقدام على هكذا خطوة. أما إذا لجأ إلى دور النشر العراقية، المدعومة حكومياً، فإن عمله يولد ميتاً مقدماً لأسباب يعرفها جيدا من جرب طباعة كتاباته. أما هو فقد ذلل، بفعل ذكائه وبراعته في التعامل مع بعض دور النشر العربية هذه الصعوبات، التي كان من ثمارها نشر كتابات عدد غير قليل من الأكاديميين العراقيين، وخاصة الشباب، في الأوساط الثقافية العربية. ولولا جهوده البارزة في هذا المجال لبقيت تلك الأعمال، ومعظمها إطاريح دكتوراه، مركونة على رفوف مكتبات الدراسات العليا يعلوها الغبار لا غير.
ولذلك ليس من المبالغة القول: إن نشاطه الثقافي على مستوى الأعمال التي حررها وأشرف عليها يرقى إلى نشاط بعض مراكز الدراسات. وحسبنا على ذلك مثال "مركز دراسات الوحدة العربية"، أبرز دور النشر العربية عناية واهتماماً بنشر(الأعمال الجماعية). لكن هذه الأعمال هي في المحصلة أما نتيجة مؤتمر يعقده المركز حول موضوعة ما، ثم ينشر أعمال الباحثين في كتاب جماعي، أو جمع لدراسات متفرقة ذات هوية واحدة مقتبسة مما تنشره مجلة المركز (المستقبل العربي). ولا يخفى مدى الفرق بين نشاط مركز دراسات له من الإمكانات المادية الجبارة، بما هو مؤسسة قائمة بذاتها لها موظفوها ووكلاؤها ومردودها الماديّ، وبين نشاط (فرد) لا يملك أي من تلك الإمكانات سوى التوظيف البارع لوسائل الاتصال. وبعبارة أكثر تحديداً لم يكن لجهوده الثقافيّة أن ترى النور لولا فضائل العالم الرقميّ، أداته الأبرز في التواصل مع شتى الباحثين.
والمقارنة تبين لنا أنه شق طريق هو علم عليه وحده، طريقا ذهب به أقصى ما يمكنه الذهاب، وجعل منه ظاهرة تلفت النظر وتستحق الإشادة. غير أن هذا النشاط لم يخل من معوقات، تمثلت أولاً: في سياسات بعض دور النشر التي أقصت المؤلف وحقوقه، وأخذت بأساليب الخداع والمراوغة، وجعلت من الربح هدفاً لا بديل عنه. بل وذهبت أبعد من ذلك حين اخضعت المعرفة لاعتبارات الموضة ومتطلبات السوق. وثانياً: في مزاجية بعض من النخبة التي تعامل معها. ومع أنني قد رأيت أصناف شتى من هذه المزاجية بحكم عملي في الجامعة، فإن لتجربته في العمل الجماعي وصعوباته شكلاً آخر قد لا يتوفر إلا لمن خبر هذا النوع من التجارب.
يتساءل البعض: كيف يتوفر لمن يعيش ظروف العراق وأزماته، ويزاول مهنة التدريس، ويتحمل مسؤوليات المنزل، ويشترك في نشاطات عدة خارج مهنته الجامعيّة، حضور ثقافي مميز عمده مؤخراً بجائزة الإبداع الوطني للثقافة؟ سؤال لا أنكر أن فيه من الوجاهة، ومن الفضول الرامي إلى معرفة السر وراء تلك الإنجازات والحضور اللامع.. لكنه، وفي حالة من عرفته عن قرب، لا لزوم له، لأن في هذا الشاب اليافع القدرة على إنجاز أعمال عدة في وقت واحد، وفيه أيضاً روح لا تمتثل إلى فترات الطوارئ والأزمات، ولا تخدر أو تنساق إلى السائد والمألوف، فهو خارج تلك الأزمات وداخلها، خارجها حين يمضي وعن إصرار في مشروعه، مدفوعاً بشغف المعرفة التي لا تعرف الحدود والنهايات، وداخلها حين يحمل هموم وطنه ويقدم حلولاً لها، وحسبنا على ما نقول كتابه (استحضار حنة أرندت في فهم الواقع السياسي
العراقي).
تبقى جهوده على سعتها في الكتابة والتحرير والإشراف، وفي التقديم لبعض الأعمال، علامة مضيئة أسهمت في كسر الصورة النمطية عن الواقع الثقافي في العراق، بوصفه واقعاً ساكناً لا حراك فيه، وإن أقصى ما يشكله المثقف العراقي هو الاستهلاك الثقافي لما يكتب عربياً وغربياً. ويحق لنا أن نفخر بأن هذا النشاط الثقافي الفذ يخرج اليوم من بلد يبدو لمن ينظر له من الخارج، وحتى من الداخل (بعض أبنائه)، حالة غريبة، نظراً لما يمر به الوطن من أزمات، إلا أن هذا الاستفهام - وهو قريب من السؤال السابق - لا يفسر مرة ثانية، إلا إذا ربطناه بشخصه، وبمعنى آخر بصفة كامنة في أعماقه، مفادها: إنه وعن إصرار غير مسبوق قد شق درباً جعل منه حالة استثنائية وفريدة في وسطنا الثقافيّ العراقيّ خاصة والعربيّ
عامة.