أمير الذباب: القاتل.. الحيواني.. الكرنفالي

ثقافة 2024/08/05
...

  ماتيو الان
  ترجمة: كامل عويد العامري

لا ينبغي أن نقلل من شأن الشعبويين ولا أن نشهر بهم. إن كل ما يشبه التقزز أو السخرية أو الإقصاء المنهجي، من دون أي شكل آخر من أشكال المحاكمة، له اسم واحد هو: احتقار الشعب. لا يمكن مكافحة هذا النوع من الأمراض إلا بالحجج، والالتزامات، والاثباتات، بالفكر، قولا وفعلا، وليس بالتجاهل. فالاستراتيجية المعاكسة تغذي شعور الشعبويين بالظلم وتؤدي إلى نتائج عكسيّة. إنه فخ مميت وقع فيه ماتيو رينزي وهيلاري كلينتون وديفيد كاميرون ورالف، البطل المنهار في رواية وليام غولدنغ "أمير الذباب".
أسلحة الإغراء الجماعي
في هذه السرديّة الروبنسية - وهو نوع من الأدب والسينما يستلهم من قصة روبنسون كروزو، حيث يركز على تجارب الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم في الطبيعة بعيدًا عن المجتمع. يُمكن أن يُستخدم أيضًا لوصف شخص يختار العزلة في مكان نائي - جانب مظلم من ملحمة ديفو، حيث تجد مجموعة من تلاميذ المدارس الذين تبلغ أعمارهم نحو عشرة أعوام أنفسهم محاصرين في جزيرة صحراوية بعد تحطم طائرة. يختار الفتيان الضائعون رالف قائدًا لهم، وهو رفيقهم الذي يجسد أكثرهم الشجاعة والنضج والعقلانيّة. ولأنّه الشخص الذي يخاطب العقل واللغة، والمرونة والثقة، ينجح رالف في البداية في توحيد المجموعة وتوجيهها، ويخلق نظامًا قد يكون ناقصًا، ولكنه قائم على العقل.
إلا أنّه مع مرور الأيام، يجد صعوبة في احتواء إغراء النزوات المتطرفة لمنافسه جاك، وهو فتى مفتول العضلات يتمتع بروح استفزازيّة قوية لا يتورع عن مغازلة مشاعر أعضاء المجموعة المحبطة وإثارة غريزة العنف لديهم.
يستغل جاك، الصياد البارع، أسلحة الإغواء الجماعي التي هي في ذروة الأزمة، وهي عبارة عن صيغ مختصرة وصيغ تنقر على الوتر، وحلول مبسطة ومضللة. لديه هدف واحد فقط: الاستيلاء على السلطة. سينجح جاك، وسينتهي الأمر برالف بالبكاء، تمامًا كما تبكي ديمقراطياتنا المنهكة اليوم.
لكي ينتصر، يفضل جاك المدى القصير ويستغل الغرائز البدائيّة، مفضلًا الصيد واللعب على الحفاظ على النار، تلك هي شعلة الحرية التي ستسمح للأطفال بمغادرة الجزيرة يومًا ما عندما تمر سفينة. وهو يقود الأطفال القلائل الذين اختاروا اتباعه بسلطة مطلقة ومن دون احترام للقواعد، مستهينًا بـ "الصدفة"، هذا الرمز الهش للديمقراطية على طريقة رالف. يصرخ جاك: "إلى الجحيم بالقوانين! نحن أقوياء.. نحن نصطاد".
مثل جميع الشعبويين، يجسّد جاك ما أسماه ماكس فيبر "السيادة الكاريزمية"، المبنية على شخصية القائد وجاذبيته، على عكس "السيادة التقليدية"، المبنية على التقاليد والعادات، وهي سيادة الوالدين التي تتجلى في الواقع بغيابهم، و"السيادة القانونية" المبنية على القوانين والنظام التي يجسّدها رالف. إنَّ الشعبوية هي قيصرية"، أي نظام حكم استبدادي يعتمد على شخصية القائد.
من بين المبادئ الثلاثة التي وضعها رالف العقلاني، كان الحفاظ على النار في مكانة بارزة، إذ يمكن أن تشير للملاحين إلى وجودهم. ولكن في يوم من الأيام، وكما يفسد المرء حرّاس المعبد، أقنع جاك حرّاس النار الصغيرة بمرافقته في رحلة صيد الخنازير، كانت رحلة عنيفة وعفوية. وبسبب عدم الاعتناء بالنار، وكما قللنا من شأن خطر زوال حرياتنا التي اعتقدنا أنّها مكتسبة، تحولت السنة اللهب إلى رماد. مرت سفينة قبالة الساحل، لكنها فشلت، بسبب عدم وجود إشارة، في اكتشافهم وإنقاذهم.
لم تتأخر ردّة فعل أولئك الذين سنطلق عليهم أنصار العقل. "أنت ودماؤك يا جاك مريدو! وأنت وصيدك! كنا سنتمكن من العودة إلى منازلنا!" هكذا يصرخ بيغي، ذراع رالف الأيمن الغاضب. لكن جاك الصياد لا يخلو من الغطرسة أو الوقاحة. فهو لا يفقد ماء وجهه ولا يستمع إلى هذا الكلام. "أنا من جلبت لكم اللحم!"... كانت هناك مشاعر معقدة ومكبوتة تضاف إلى غضبه، مما أعطى غضبه قوة بدائيّة تبعث على الرعب".

اندفاعة كرنفالية
يبدأ جاك بعد ذلك في الانفصال. وينشئ معسكره الخاص في الجبل ويسرق النار من معسكر المعتدلين. وبقوته الجديدة، يذهب جاك للصيد ويقتل خنزيرا ضخما ويغرس رأسه على قطعة خشبية كتميمة. يحظى الذباب بيوم حافل. لقد ولد "أمير الذباب"، - "أمير الذباب، الاسم الآخر لبعل الذباب في الكتاب المقدس-".
اكتشف أعضاء معسكر رالف، بعد أن جذبهم الطعام، أن جاك قد تحول بشكل كامل: "كان متوجًّا كصنم على جذع شجرة مقلوب في وسط المرج، وجسده ملطخ بالطلاء ورأسه متوّج بالأزهار". انخرط هو واتباعه في رقصة طقسيّة حول النار وهم يرددون لازمة آسرة: "الموت للوحش! لنقطع عنقه! لنذبحه!".
شعر رالف بالقلق: "أنا خائف. إنه خائف منا". سينتهي به المطاف مطاردًا وحيدًا، مطاردًا كخنزير محاصر. "تساءل عما إذا كان خنزير سيوافق على اختياره [...]. أن يجد الأدغال الأكثر كثافة وأكثر الحفر ظلمة في الجزيرة بأكملها ويتسلل إليها. كان غولدنغ يعلم مسبقًا كم أنه، "بعد أن تحرر خلال إخفاء هويته بقناع الطلاء الذي كان يلفه، لم يكن هناك ما يمنع الفتيان من أن يصبحوا متوحشين". إن الجحافل المنتشرة في مجموعات على شبكات التواصل الاجتماعي لا تتصرف بشكل مختلف.
تحمل البادرة الشعبويّة في طياتها هذا الشكل من التوحّش. إنّه يتشكّل في أعماق غرائزنا المظلمة. "النار هي الشيء الأكثر أهمية. من دون نار، لا يوجد إنقاذ. أنا أيضًا سيُسعدني أن أرسم على جسدي وألعب دور الوحش. علينا أن نبقي نارنا مشتعلة"، هكذا ردَّ رالف. كان خطابه، وهو جاد ويوحي بالشعور بالذنب في الوقت نفسه، يصبح غير مسموع.
إنَّ الظلام، شأنه شأن إخفاء الهوية وراء الشاشات، يسمح للجميع بأن يطلق العنان لميولهم الأكثر ظلمة. "لو كان النهار، لخجلوا من الاعتراف بأشياء معينة. لكن الظلام حالك"، هكذا يفكر رالف قبل بدء عملية المطاردة الأخيرة. لا يزال الدافع للتدمير تحت ستار التمويه، وتدنيس المقدسات، تحت غطاء التنكّر. وقلب القيم التي يخفيها زيّ تنكري، موجودًا. وقد وجد ميخائيل باختين الكلمة التي تعبر عن ذلك: وهي "الكارناڤالية".

غريزة حيوانيَّة
كان غوستاف فلوبير، بدوره يصور أيضًا الغريزة الحيوانيّة الكامنة في كل جندي يتصارع في روايته التاريخيّة "سلامبو"، حيث لا تقارن شراسة المرتزقة المتمرّدين على قرطاج إلّا بوحشيّة القمع الروماني. في النهاية، يلتبس الإنسان بالحيوان. فصور رأس الخنزير تحل محل صورة أسد مصلوب على الصليب يستمتع البرابرة باضطهاده. "كان الجنود يلهون حوله، ويسمّونه قنصلًا ومواطنًا رومانيًا، ويرمون بالحجارة في عينيه لطرد الذباب". تتزايد حيوانية البشر حتى يصل الجنود إلى التخلي عن اللغة، تمامًا كما تخلى أطفال غولدنغ عن قوقعة المحارة، رمز الديمقراطية المباشرة. "كانوا يرون، خلف الآخرين جميعًا، رجالًا بملامح حيوانية يسخرون بغباء"، و "من أعماق الأزقة الضيقة، والأماكن المظلمة، كانت تخرج وجوه شاحبة، رجال بملامح الأفاعي يصرّون بأسنانهم".
يبكي رالف، في نهاية الرواية، عندما أنقذه الكبار، وهو يتأسف على قدرة البشر على إنكار حقيقتهم. "ففي وسطهم، مغطى بالأوساخ، وشعره متلبّد، متسخ الأنف، كان رالف يبكي على نهاية البراءة، وظلمة القلب البشري، وسقوط صديقه الوفي والحكيم الذي كانوا يسمونه بيغي". لا شيء يفصل رفاق "جاك" المزيّن بالطلاء والمتوّج بالزهور عن المعتدين الترامبيين في مبنى الكابيتول الذين يرتدون ملابس سخيفة مثل ديفي كروكيت [بطل شعبي أمريكي]، فبكاء رالف يشبه دموع الحراس العاجزين الذين انهاروا لعدم قدرتهم على صد كارهي الديمقراطية الأمريكية.
نحن نوجه اللوم لهذا الدافع القاتل، الحيواني، الكرنفالي، لأنّنا لا نعرف كيف نمنعه. لقد جعلنا من النزعة الأخلاقية بوصلتنا الوحيدة، وهذا خطأ فادح. أن نفعل ذلك هو أن نحكم على أنفسنا بأن ينتهي بنا المطاف جاثين على ركبنا، مثل رالف في رواية غولدنغ. تلك الرواية القصيرة التي تبين، أفضل من العديد من المقالات كيف يمكن أن تتفكك النزعة المدنية وطعم الحرية أمام مشاعر الاستياء، مما يفسح المجال لحرب عشائريّة مأساوية بين الأشقاء.
في أزمنةٍ تشبه عصرنا، حيث يسود التطرّف، كانت "الحاجة إلى الوخز والإيذاء" أمرًا ملحًا. قبل أن تنتشر جحافل المعتدين على الشبكات، وقبل أن يهاجم المتوحّشون الملثمون الكابيتول أو قوس النصر، يصف غولدنغ هذه التصعيدات المتكررة للعنف. وفي عام 1948، كان ألبير كامو يشعر بالقلق هو الآخر، قبل ست سنوات من نشر رواية "أمير الذباب"، حيال أولئك الذين لا يرون في "خصمهم" السياسي سوى "عدو".
في الرواية، كلما أصبح جاك أكثر جنونًا، أصبح أكثر تعطشًا للدماء، فيلجأ إلى التمثيل بالجثث، ويختار التعذيب لإقناع أعضاء المعسكر المستنير بالانضمام إليه، كلما زادت سلطته. مثل أرماند دينيس، الذي لا تحركه الأيديولوجية، بل الرغبة البسيطة في الهيمنة، يثير جاك كارثة دمويّة. في مواجهة مثل هذا الصعود، لا يمكن للاشمئزاز الأخلاقي أن يفعل شيئًا.

فخ جاك
كما في مواجهة ترامب الذي "يتحرش" بالنساء أو فاراج وجونسون عندما كذبا بلا خجل بشأن الأموال المستردة من البريكسيت؛ أو في مواجهة الرد على وصف أريك زمور (كاتب وصحفي سياسي فرنسي) للأطفال الذين قتلهم الإرهابي محمد مراح بأنّهم "غير فرنسيين" لأنّهم دفنوا في إسرائيل أو تمجيد فضائل بيتان "منقذ اليهود"، أو في مواجهة كوربين وميلينشون وهما يرتكبان الاستفزازات ويصبان الزيت على نار التمرّد الذي من شأنه أن يخدم مصالحهما، فكلما تحركت النخبة تقدم هؤلاء. وهم يعلمون ذلك. ولأنّ نزعة شومبيترية [جوزيف شومبيتر (1883 - 1950) هو عالم اقتصاد وسياسي أميركي من أصل نمساوي، ويعد مؤسس التحليل الاقتصادي الحركي. عُرف بنظريته في النمو الاقتصادي وابتكر مفهوم "الخلق الإبداعي" الذي يصف كيفية تأثير الابتكارات في الاقتصاد] تدفعهم (في السياسة أيضًا، اللاعبون التقليديون يتعرضون لتهديد اللاعبين الجدد الأكثر مرونة وابتكارًا)، فهم يقوضون الأحزاب التقليدية ويستنزفون قواها.
هل يعني ذلك أن علينا التزام الصمت؟ بالطبع لا. ولكن إذا أردنا أن نتجنّب فخ جاك ونثبت خطأ نبوءة الرواية، فلا يمكننا أن نكتفي بالصراخ. يجسد بيغي، الذي هو شهيد النزوات المهينة "والصوت الصارخ في البرية"، آخر حصن للحضارة لا حول له ولا قوة في مواجهة تيار قوى الفوضى. فهو بوزنه زائد قليلًا، وبنظاراته والربو الذي يجعله هدفًا رئيسيًا للسخرية، فهو الأكثر عقلانية في العصابة، والبالغ الذي يرفض الأطفال الاستماع إليه، وصوت الحق الذي كان من المفترض أن تصبح محارته. "مكبر الصوت". يقول بيغي الذي لا يكف عن توبيخ الأطفال على افتقارهم إلى النضج: "إن غير العقلاء هم من يسببون المشكلات في جزيرتنا". وهو يحاول مساعدة رالف على تجنب المزايدة الغوغائية واتخاذ قرارات مستنيرة بدلًا من التظاهر بالفكرة مثل منافسه الذي يتسم بالغوغائية. "ماذا ستفعل يا رالف؟، هذه كلمات وليست قرارات". من ناحية، أفعال أقل تكلّفًا، ولكنّها لا تزال جزءًا من رؤية التحرّر. ومن جهة أخرى، مزايدات ومهاترات وأكاذيب (أتذكر، من دون أن أتأثر، ولكنني أتذكر على الفور أن ميلونشون وصفني خلال أحد برامجي التلفزيونية الأولى بـ "قرد جديد بنظارات كما نحصل على واحد كل عشر سنوات").
أليس هذا بالضبط ما نحن فيه؟
ينتهي التجمع الأخير، الذي اقترحه رالف في محاولة للتصالح مع جاك وأتباعه، بموت بيغي المأساوي وتدمير صدفة المحارة، شعار حرية التعبير في خدمة الديمقراطية والذكاء الجماعي، التي اختفت إلى الأبد.
مثل الحمار في حكاية لافونتين "الحيوانات المريضة بالطاعون"، الذي حُكم عليه بالذنب في وصول الوباء وحُكم عليه بالموت لأنه أكل قليلًا من العشب، يدفع بيغي حياته ثمنًا لافتقاره إلى الفصاحة والجاذبيّة، وعدم قدرته على تملق الجماهير واعتداله رغم أنه كان على حق. تنبئنا رواية "أمير الذباب" بمأساة كبش الفداء، الضحية إن لم نكن حذرين لأشد الدوافع فظاظة وخطورة.
إنّ الشعبويين محمولون على أجنحة هذه العواصف: العاطفة، وحس الانتقام، وجاذبيّة التمرّد. فهم يرددون حقائق ممزوجة بالأكاذيب والاستفزازات، وكلماتهم ساحرة. وتنجح راديكاليتهم وعنف رؤيتهم الثنائية في توحيد الناس في صراع مميت بين "نحن" و"هم". هكذا هم الشعبويون. يتغذون على ندمنا، وإحباطاتنا، وجوعنا الذي لا يشبع، وأهوائنا، وعدم رضانا. فهم يعيدون كتابة التاريخ بحبر هواجسنا، ويتاجرون بعواطفنا ومخاوفنا لبيع وعود بتدمير كل شيء من جديد. وقد أتقنوا فن الإغواء الشعبوي، ويستخدمون أداة " نزعة التخلص من كل شيء"[موقف العصيان والرفض الذي يدعو إلى الإطاحة بمن هم في السلطة، من خلال صناديق الاقتراع أو التمرّد، من دون الرغبة بالضرورة في أخذ مكانهم.] لتدمير جمهورياتنا، وإن كانت ناقصة وقابلة للإصلاح - فهي لا تزال بحاجة إلى الإصلاح ــ ولكن استناداً إلى قواعد أساسية، وعلى مكتسباتنا، وعلى العقل والقانون.
إنّ رواية أمير الذباب هي عهد الزعيم الصغير الذي يروّض أهواءنا الحزينة ويتسلّط على الحشرات الطائرة ليروي ظمأه إلى السلطة التي لا ترى بالعين المجرّدة. فبنقره على جثتنا المقلوبة العظيمة، جثة ديمقراطياتنا المريضة، يمكن أن ينقلب فن الحياة المستنير بروح التنوير.