ياسين طه حافظ
دائماً ما أفكر في الرواية، حجمها وعدد صفحاتها، عالمها الواسع ومضامينه وناسه وأحداثه، وتلكم الحياة التي شاء لكاتب أن يؤلفها مما رأى ومما تخيّل وتمنى وأيضا مما عاش وقرأ أو رووا له.
لكن هذا الخليط، من المشاهد والناس والأحداث، وهذا المزيج من المواقف والعواطف، ما ظل لمجرد أن يحكى أو يروى هو ربما نشأ كذلك لكنه ما عاد كذلك. اختلف فناً وفلسفة وخطاب حياة.
وهذا تماماً هو ما مرَّ به الشعر. لندير الوجه عن كثيرٍ مما نقرأ منه. فهم ناس المراحل الأولى التي تجاوزتها إلى الفن الأعلى قيمة وأرقى تقنية وضرورة تعبير. هو غير ما ظلَّ يملأ الساحة. والرواية مثيلته فناً ورؤى ومسعى. الرواية الحديثة قطعت مراحل، كانت جيدة، نقول "كانت"، ولها من يفضلها من أصحاب ثقافة "كانت" ومزاج كان وفهم ذلك مستواه. لماذا هذا الحديث عن الرواية والاستطراد للشعر وما الغرض أصلاً من كتابتك وأنت تسعى لكلمة للصباح؟.
أتحدث عن الرواية اليوم وأنا أدرك كم اتّسعت حاجة الإنسانيّة ليُعَبّر عنها لكشف حقائقها. ولنرى مسجلةً مدوّنة ومرسومة بعناية متاعبُ الإنسان عواطفه، عذابات عالمه ومعوّقاته ومصادراته وأيضاً منحة لإنسان من جمال ولطف حياة وطبيعة ومصادفات. باتت الإنسانيّة أيضاً واسعة، معقدة الاحتياج إلى الفهم والعون ولأن تُرى حقائقها الغائبة التي لا تُرى. لم نشهد عبر التاريخ فناً ولا حرفة ولا صناعة تفرّغت للانسان وتفاصيل عيشه ومشاعره وهمومه.. كل من تلك الاهتمامات انشغلت بناحية، بجانب مما يهيئ نفعاً ليوفر قوتاً وقوتاً مثل الموت. وهذا مسعى مشترك ولا تفاصيل. أما أن تمتلك فناً اسميناه الفن الروائي وتنتج بمهارات عالية فن قصٍّ وكشف وبفلسفة وفهم لما كان ويكون ونريد. فهذا قطاف عظيم وهذه حصيلة فنون وثقافة من ضاعت من الإنسان، هُدِرت ولكن خلّفت فناً مهماً ومجداً. مجد البشريّة أن توفّر "سجلاتٍ" من هذا النمط الغني والراقي لمشاعرها وأحوالها وناسها وظروفهم وما فيها. الرواية كشفت مناطق شاسعة من داخل الإنسان لم نكن نعرفها إلّا بنزر وعن بعد.
لكن لماذا الاهتمام "بسجلات" أو بتسجيلات أو بمجلدات برع في صنعها وكشف محتواها أفراد خارقون، وناس صار ذلك همهم ومبتغاهم المهم والجميل؟، نعم صار العمل فناً لذاته، ولكنه يقدم للحياة ما هي بحاجة إليه ويقدم للإنسانية الكثير مما تجهله عن نفسها. لا بقصد العلاج، كما أرادت مرحلة ذلك، ولكن بقصد أن يكون للبشريّة سجل تاريخ حياتها ومفردات عيش ناسها ومشاعرهم وعواطفهم وعذاباتهم ومحاولات واخفاقات البشر والأحياء الذين كانوا يعيشون. أن يكون عنا أو عن أمثالنا الحديث، ليس هذا هو الأهم، الأهم أن الحياة كما هي لا تضيع!
الشعر حين يكون دقيقاً، مرهفاً ونافذاً يكون كذلك. لكنه حين يكون سطحياً ولغو إثارة، وبلا مسعى جليل ومن دون ارتقاء لقول الصعب مما تكدّس داخل الإنسان، يكون سفيهاً ويفقد صفته فناً. أيضا يفقد دوره ذلك الذي أشرنا له في الرواية التي تدرك أهمية مضمونها، وأهمية المشاركة الجادة والراقية والرفيعة في التعبير عن الإنسانية وكشفها مما يغطيها من تراب العيش ودخان المدن والصراعات اليوميّة والكدح.. الإنسان الضحية والمقاوم والذي لا يريد خسارة المعنى، هو لا غيره ضحية ظروف العيش المتداخلة والصعبة المربكة. نحن لا نستطيع نميز روحاً لإنسان مغمور بالوحل، وإذا غسلته فقد نرى ملامح إنسان لكن الروح لا يراها إلا الفن. والعواطف لا يراها رؤية عميقة إلا الفن، والإنسان لا تصوره الكاميرا مثلما يصور الفن حقيقته أو روحه. الفن، والفن الروائي، هو ما أمجّدُه اليوم!
الحياة ليست مسرحاً لنتحدث عن ممثليه. الأحياء هنا نماذج للبشرية، للإنسانية العظيمة على الكوكب. والأحداث والبيئة والسموم وأدوات القتل أكبر وأوسع مما يمتلك الأفراد من حب أو عواطف. الكفاح الأبدي الصعب مستمر، وما يزال الإنسان لم يستسلم وإن لم ينتصر. لكن دقائق الفرح والنشوة أو اللذة، تبقيه حياً ويواصل قطع الطريق على الشر لكي لا يستفحل أكثر. الإنسان عاقل جداً ويعلم أنه لا ينتصر تماماً على الشر والسوء والمعوقات القاتلة أو السامة، لكنّه فخور بمجد البقاء واستمرار الحياة وإن المعاني ما انقطعت، وهو والحياة الجميلة باقيان. القبح موجود لكن الجمال موجود أيضاً! سلاماً.