صورٌ لذاكرةِ الصَّمتِ والفقدان

ثقافة 2024/08/06
...

  سامر أنور الشمالي 


القصيدة عن الشاعر البحراني علي الستراوي في مجموعته الصادرة عن ديوان العرب للنشر والتوزيع "ذاكرة الماء" ليست بالضرورة مجالاً للبوح الوجداني الصرف عمّا يعتلج في النفس من أفكار ومشاعر وأحاسيس تتناولها القصيدة لتعالجها بطريقة معينة، بل قد تكون القصيدة عبارة عن لوحة مرسومة بكلمات تتعدد أطياف ألوانها فتنقل ما يجول في مخيلة الشاعر على الورق لعل القارئ يرى تلك اللوحة بعيني مخيلته كي يتواصل مع النص بالطريقة الأمثل. 

(فساتينُ عرسِكِ ما زالتْ تُحاكُ بخيوطِ البحرِ

وما زالتِ المدينةُ موحشةً

يكنسُ عمالُ النّظافةِ شوارعَها بحرارةِ الشّمسِ

وأنتِ بين المرايا تبحثينَ عن وجهِكِ الضّائعِ في الزّحامِ

تنتظرينَ فارسَكِ المُغيّبَ من زمنِ الطّوفانِ

تجوبِينَ الطّرقاتِ دون سكَرٍ وماءٍ).

الفستان الأجمل الذي تحلم فيه كل امرأة منسوج هنا من زبد البحر الذي سرعان ما يزول، فلا تجد العارية من أحلامها وجهها في المرايا لأنّها فقدت كل شيء، فالفارس لن يأتي لينقذها من وحشتها، فتظل تجوب الطرقات من دون جدوى، وكأنّها شبح لا حياة فيه فلا تأكل ولا تشرب، فالأشباح لا تظهر وجوهها في المرايا كما تقول الأسطورة. وهناك عمال النظافة الذين يحاولون تنظيف الشوارع عبثا. 

(والبيتُ يا أمي صامتٌ حزينٌ

يبحثُ عن طيفكِ في الدّهاليزِ الضّيقةِ،

لا ألفةٌ ظلّتْ

ولا أنجمٌ انتظرتكِ

ولا شجرةٌ كانت موطنًا للعصافيرِ).

هنا نجد لوحة البيت الصامت، فبعد غياب صاحبة البيت صمت كل شي، حتى الشجرة بجواره صمتت، بل ماتت أيضا، وكأنّها لم تقف عليها العصافير في الأيام التي كانت صاحبة البيت تمنح الأنس لكل ما حولها.

ويبحث الابن الحزين في أرجاء البيت الميت لعله يجد ما بَقِيَ من طيف أمه في الدهاليز الضيقة حيث تكثر فيها الظلال التي لا صوت لها. ولكن ما من حضور لغير الذكريات التي تؤكد أن لم يعد ثمة حياة في المكان الذي فقد كل الأصوات.

 (أعيدِي يا أغنيةٌ دونَ موسيقى الخوفَ لأوتارِ قلبي

وصدقاً يكتبُني في الأملِ صحوةً لِدِيْكِ الفجرِ

لعل من أدركهُ الشّتاتُ

لن يعيدَ لبوقِ الحربِ نافخَهُ

ولن يصارعَ قسوةَ الجوعِ في اليُتمِ

ولن يتقدمَ في عراكِ الدّمِ

ضعي كأسَكِ في كتبِ النُّحاة 

لعلَّ حروفَ الضّوءِ تتقدمُ في الياسمينِ

ولعل سنابلَ القمحِ تزيّنُ الطّرقاتِ

بأفواهٍ تتقاسمُ رغيفَها

دونَ ضجيجٍ

أو تلوكُ جوعَها بهدوء).

لا تكون الأغنية من دون موسيقى، لكن كل شيء صامت هنا، وأوتار القلب لا صوت لها أيضا. ولكن في هذه القصيدة شيء من الأمل، وإن كان مجرد أمنية تلوح في الأفق البعيد، فحروف الضوء قد تكتب شيئًا جديدًا يبعث على السرور بهدوء، وسنابل القمح تصنع الرغيف ليأكله الجوعى من دون إثارة أي ضجيج. وربما هي ردة فعل على أصوات الحرب المرتفعة التي تسرق الحياة، وتترك الأطفال يتامى يشكون الجوع.