طبّاخ الدواعش

ثقافة 2024/08/06
...

 يوسف المحمداوي


"إلياس في بلاد داعش" الرواية الصادرة هذا العام بطبعتها الأولى عن دار كوديا للنشر والتوزيع هي للكاتب والسينمائي المغترب حسن بلاسم، والذي لا يعرف بلاسم هو كاتب عراقي مقيم منذ عقود في فنلندا، وتمحورت مؤلفاته في السينما والمسرح والسرد، ومن رواياته: "المسيح العراقي، مجنون ساحة التحرير، معرض الجثث، بلبل السيد" ومؤلفات أدبية وفنية وترجمات أخرى، وحصل من خلال منجزه على العديد من الجوائز، كجائزة الاندبندنت الانكليزية قبل أن تندمج مع جائزة البوكر. ويعد بلاسم أول كاتب عربي يحصل عليها في العام 2014، وترجمت أعماله إلى أكثر من 25 لغة، ووصفته صحيفة الغارديان بأنه "أفضل كاتب عربي على قيد الحياة".


كنيسة الدومنيكان

الرواية التي تألفت من 117صفحة توزعت بين ثمانية عناوين، ابتدأها الكاتب بكنيسة الساعة التي جعل منها مقدمة لروايته، معتمداً في سرده الواقعي على كتاب "الآباء الدومنيكان في الموصل 1750- 2005". للباحث بهنام سليم حبابة، واختتمها بفصله الأخير "قرية إبليس". يذكر المؤلف في عنوانه الأول أنه في العام 2000 كان الآباء الدومنيكان يحتفلون في كنيسة الساعة وسط مدينة الموصل بمرور 250سنة على وجودهم في العراق، وفي العام 2014 احتل تنظيم الدولة الإسلامية الموصل وحوّل كنيستهم إلى أحد مقراته.

يشير المؤلف إلى أن كنيسة الدومنيكان تقع في حي الساعة بالموصل، والحي أخذ التسمية من ساعة الكنيسة التي تعد من أشهر كنائس الموصل، ولها أسماء عدة غير اسمها الشعبي المتداول "الساعة" ومنها "اللاتين، الآباء، كنيسة الدومنيكان"، والتي وضع حجر أساسها في التاسع من نيسان 1866.


ساعة أوجيني 

ينتقل بنا الكاتب إلى عنوانه الثاني وهو "ساعة أوجيني"، وأوجيني للذي لا يعرفها هي الإمبراطورة زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، ولم تكن أوجيني امرأة فاتنة وآسرة الجمال فحسب كما يشير بلاسم، بل كانت مثقفة وذكية وصاحبة شخصية جذابة، وهي مولودة في إسبانيا بمدينة غرناطة، لكنها درست وتعلمت في فرنسا، وكانت تجيد اللغة الإسبانية والإنكليزية والفرنسية، وكانت تعرف الدومنيكان منذ أيام طفولتها، حين كانت تقضي إجازتها في مدينة تولوز جنوب فرنسا. وهذا الفصل يتحدث بصورة معمقة عن كيفية وصول ساعة أوجيني من فرنسا إلى الموصل والمخاطر التي رافقت الرحلة وحجم التضحيات التي بذلت من أجل وصول الساعة إلى كنيسة 

الدومنيكان.

في الفصل أو العنوان الثاني يوضح لنا بلاسم التفاصيل الدقيقة عن حياة الكنيسة التي أصبحت مقراً غذائياً لعصابة داعش، وكذلك الشخوص القائمين على العمل فيها وسر العلاقة بين بطل الرواية "إلياس" والطباخ "أبو قتادة"، فمنذ اختار الشيف أبو قتادة الولد إلياس ابن الرابعة عشرة كمساعد له، كان يعامله كأب محب وحريص، بحيث صار إلياس وكأنه الابن الشرعي لطباخ داعش، ليتضاعف قلق الأب على ابنه، وراح يغمره بمحبته وحنانه، وكان الياس ينادي أبا قتادة "أبي"، وكان الأب يؤنس في كل ليلة ابنه قبل أن ينام، بحكايات الساعة والدومنيكان، لعلها تخفف من وطأة كوابيس الولد الذي رأى الأهوال وهو ما زال صبياً 

صغيراً.

فضلاً عن الشيف ومساعده إلياس بطل الرواية كان من ضمن كادر مطبخ الكنيسة العديد من الأشخاص الذين يبالغ المطبخ في تلبية احتياجاتهم منهم على سبيل المثال لا الحصر الفرنسيان من أصول مغربية محمد وعبد الله والذي يطلق عليهم لقب "الكسكس" من قبل الجميع، لكونهم في بداية وجودهم في الكنيسة طلبا من أبي قتادة أن يطبخ لهم الأكلة المغربية المعروفة "الكسكس" وهذا ما أثار جواً من المرح والمزاح عليهما من قبل الجميع، فأصبح طلبهم بمثابة التسمية الجديدة والشائعة

لهما.


توزيع الطعام

 الحديث التالي الذي دار بين إلياس وأبي قتادة يوضح لنا ضخامة العمل الذي يقوم به هذان الشخصان، بعد أن جهّز طعام العشاء، قال إلياس: "ما أريد أودّي الأكل للأخوين كسكس" ثم أضاف: "أغبياء يضحكون على كل شيء من دون سبب.. ويرطنون دائماً بالفرنسية" ابتسم أبو قتادة: "دعك من هذين الأحمقين، سآخذ بنفسي الطعام إليهما"، رش الطباخ كمية من الملح في قدر المرق: "اوكي.. خل نوزع شغلنا من جديد.. نأخذ سوية صواني الطعام إلى جماعة الجيش الرقمي فهم كثر.. وآخذ أنا الطعام إلى الأنصاري والأخوين.. أنت تهتم بسارة الصيدلانية وبحارسي الصندوق الجديدين"، "والسبايا ودورية الحراسة في الخارج" سأل إلياس "السبايا في قاعة الفنون سيطبخن بأنفسهن بأمر من الأمير الموصلي.. الحمد لله خلصنا من تذمر المسكينات الدائم من طبخنا..أما البغال الستة في دورية الحراسة نأخذ الأكل لهم سوية"، ابتسم إلياس وراح يصفّ الصواني، ويضع فيها الصحون والملاعق، بينما راح أبو قتادة يصب الرّز ومرق

الباميا".


الشاعرة والصيدلانيَّة

الشخصية التي يسلط عليها المؤلف اهتمامه بعد الامبراطورة "اوجيني" هي الصيدلانية والشاعرة "سارة" وإحدى ضحايا "داعش" في الموصل لكونها كانت من عائلة ثرية وأكملت دراستها في جامعة الموصل، وكانت شاعرة ولها ديوان شعري مطبوع بعنوان "انخيدوانا"، وقبل احتلال داعش طبعت من منجزها الشعري " 500 " نسخة، وعلى الرغم من إدراكها بأن البلاد مصابة بسرطان الحلال والحرام منذ قرون، لكن ديوانها الشعري لا يخلو من الحديث عن الجسد والغرائز الجنسية، وهذا يعني تلطيخ شرف بلاد الرجال المؤمنين بأن حريتهم وكرامتهم ووجودهم مرهون بفرج المرأة، على حد تعبير سارة في أحد برامج الإذاعة المحلية، وتعتقد سارة أن الاسلام  دفن حضارة وادي الرافدين المتنوعة والغنية أسفل قوانينه وفلسفته المتحجرة، وصارت في غياهب النسيان، وكانت تشرح دائماً لمن توقع له ديوانها عن الأميرة "انخيدوانا" ابنة سرجون الأكدي، وتعدها أول كاتبة في العالم، وتستغرب عن عدم ذكر هذه المعلومة 

في المناهج الدراسية.


أرشفة تاريخيَّة لواقع مرير

من سوء حظ سارة وقدرها المشؤوم  أن الكثير من الأسر الفلاحية الموصلية نزحت من قراها وسكنت المدينة، وصادف أن سكنت في شارعهم إحدى تلك الأسر، وكان أحدهم يعمل في جهاز أمن النظام السابق يدعى " بكر عبد القادر" ولهوسه بجمالها قام بملاحقتها أين ما ذهبت إلى أن وصل به الحال إلى أن يتقدم لخطبتها، لكن أسرة سارة رفضت ذلك للفارق الطبقي بين الأسرتين، لتصبح بعد ذلك أسرة سارة هدفاً لمكائد بكر المتلاحقة.

بعد دخول داعش واحتلال الموصل من كان يتخيل أن سارة، الفرس الجامح، سترتدي البرقع والحجاب، ولا تستطيع قيادة سيارتها للذهاب للعمل، ليقوم زوجها بايصالها يومياً، ولكن لم يدر بخلدها أن بكر عبد القادر أصبح أحد أمراء داعش ويدعى أبا بكر الموصلي، الذي يقتحم هو وعصابته بيت سارة ويأمر زوجها بطلاقها مقابل ضمان حياته، ويقوم بالزواج من سارة وجعلها أسيرة ضمن الرقعة السكنية للكنيسة.

الرواية توضح لنا حجم المعاناة التي تعيشها مدينة الموصل تحت وطأة أحكام داعش الوحشية، وتعج الرواية بشخصيات كثيرة غير التي ذكرت أعلاه وأحداث عجيبة وغريبة لم يتطرق لها الإعلام بجميع تفاصيلها، لكن حسن بلاسم أجاد كأي مخرج سينمائي بوضع القارئ لمنجزه الرائع أمام حقائق من الصعوبة تصور وقوعها، إن رواية "إلياس في بلاد داعش" إضافة مهمة للمكتبة العربية لكونها توثق تاريخياً حقبة مريرة عاشها العراق بصورة عامة والمجتمع الموصلي بصورة 

خاصة.