التقاليدُ بوصفها واجهةً حضاريّة

منصة 2024/08/06
...

 محمد صابر عبيد

ترسم "التقاليد" حين تنهض على قيم أصيلة واستراتيجيّة واضحة المعالم ورصينة ذات طبيعة معرفيّة؛ فهي ترسم صورة حيّة ومتطورة ومتقدمة وجوهرية عن طبيعة المجتمع المثقف المتحضر المتمدن، ومجتمع بلا تقاليد لا يسعه الانتماء إلى فضاء الثقافة في وجهها الحقيقيّ الناصع والقادر على التأثير في المحيط.

 لأنّ هذه التقاليد لا تنشأ مصادفة أبداً؛ بل تنمو كما تنمو النباتات على سطح الأرض الصالحة الخصبة المعطاء، وتحتاج لهذا النمو رجالاً يقدّرون معنى أن تنبني تقاليد تُسيّر حركة الثقافة في مجتمعهم على أسس صحيحة، يفرضون رؤيتهم الناضجة المؤلّفة من مرجعيّات رصينة وإعداد معرفيّ ثريّ وحسّ عميق يدرك ويفهم كلّ ما حولهم، على النحو الذي يؤسّس قدراً عالياً من الثقة والإيمان والانتماء لهؤلاء الرجال، وهم يجتهدون في تأسيس فضاء ثقافيّ ومعرفيّ ناضج وحيويّ؛ يقوم على أعلى درجات الرقيّ والأناقة والوعي والتعاطي الحرّ والجميل مع الأشياء.

ارتبطت فكرة التقاليد بالمجتمعات التنويريّة الطليعيّة التي تدرك قيمة هذه الفكرة وجدواها؛ وقوّة تأثيرها في الكون الثقافيّ على النحو القادر على التغيير والانتقال إلى مراحل جديدة من التفكير والممارسة، فلو فحصنا الحياة الثقافيّة والفكريّة والمعرفيّة العربيّة مطالع القرن الماضي سنجد حراكاً استثنائيّاً قادته ثلّة من كبار التنويريين، ولعلّ في مقدّمتهم طه حسين وعباس محمود العقّاد وغيرهما من كبار قادة الثقافة والفكر في ذلك الزمن، على الرغم من حساسيّة العلاقة بين طه حسين والعقّاد وما صاحب ذلك من معارك أدبيّة شهيرة، إذ أسهما كثيراً في خلق تقاليد ثقافيّة ومعرفيّة حقيقيّة؛ ظلّت تُلقي بظلالها على مساحات ثقافيّة وفكريّة ليست قليلة حتّى وقت 

متأخّر.

يتحدّث الصحفي والأديب والفيلسوف المصريّ أنيس منصور عن محاولته لإقناع طه حسين بالموافقة على حوار متلفز مع مجموعة من كبار أدباء مصر، وحضر اللقاء رموز الفكر والأدب الذين وجّهوا له الأسئلة برفقة الإعلامية ليلى رستم، وعلى رأسهم عبد الرحمن صدقي، الدكتور عبد الرحمن بدوي، يوسف السباعي، ثروت أباظة، أمين يوسف غراب، الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي، نجيب محفوظ، محمود أمين العالم، أنيس منصور بوصفه مُعدّاً للبرنامج، وكامل زهيري، إذ سأل طه حسين قبل الموافقة على طلب أنيس منصور عن مقدار المكافأة التي سيتقاضاها أولاً، وعن عدد الأدباء الذين سيحضرون الندوة ويوجّهون إليه الأسئلة ويحاورونه، وفي سؤاله عن قيمة المكافأة أراد معرفة ذلك ليرى إن كان العقّاد في مقابلة سابقة معه قد تقاضى المبلغ نفسه أم أكثر، وحين أعلمه منصور بالمبلغ وافق على الفور لأنّه عرف أنّ العقّاد لم يحصل على مبلغ أكبر.

وسأل طه حسين في أثناء عقد اللقاء من جديد عن عدد الأدباء الحاضرين حين أدرك أنّهم أكثر من خمسة كما هو الاتفاق، غير أنّ أنيس منصور أكّد له الالتزام بالعدد المتّفق عليه؛ وربّما عرف طه حسين أنّهم أكثر من ذلك غير أنّه تجاوز الأمر، وكان منصور قد أوصى ليلى رستم وصايا شديدة الأهميّة في أثناء حوارها مع طه حسين، منها أن تطرح عليه الأسئلة التي حررّها المعدّ ودوّنها من دون زيادة أو نقصان، وتدير اللقاء بمنتهى اللياقة بما يكفل للضيف كامل الاحترام، وأن لا تعقّب أيّ تعقيب على ما يقوله طه حسين ولا تعلّق ولا تقول كلمة واحدة خارج السياق، مثلما أوصى ثلّة الأدباء الحاضرين بما يشبه ذلك؛ ولا سيّما حين يعتقد أحد منهم -افتراضاً- أنّ طه حسين قال أمراً خاطئاً على نحو من الأنحاء، إذ كان يرغب أن يوفّر له أعلى درجات الإجلال والتكريم والتقدير لتكريس تقليد ثقافيّ أصيل، يعبّر عن أهميّة الشخصيّة ودورها التنويريّ الكبير في الثقافة العربية، والتعامل معه بكلّ ما يضعه في هذا المقام بحيث يتعإلى الاحتفاء به على أيّ قيمة أخرى جانبيّة.

لا شكّ في أنّ التقاليد تنهض أولاً على احترام القيمة الأدبيّة والثقافيّة والمعرفيّة للشخصيّة وللمواقف التي تحضر فيها، فطه حسين بالتأكيد لم يكن بحاجة إلى المبلغ؛ ولم يكن يضيره أن يحضر عدد أكبر من الأدباء تلك الندوة، غير أنّ التأكيد على مثل هذه الأمور لها علاقة بوضع الضيف على النحو الذي ينشئ تقاليد صحيحة وراسخة، بوسعها أن تضع الأمور في نصابها الصحيح وتعرّف الأشياء بدقّة، فضلاً عن أنّ شخصيّة مرموقة مثل طه حسين ينبغي أن يكون التعامل معه استثنائيّاً على مختلف المستويات، وهذا ما دأب عليه الغرب المتقدّم والمتطوّر حين أدرك أنّ العتبة الأولى لمسيرة التقدّم والتطوّر تبدأ من الشروع في بناء التقاليد، فهي العتبة التي لا يمكن لشعب أو أُمة أن تمرّ إلى فضاء الحضارة من دون العبور من فوقها وتأمين متطلّباتها.

تعدّ التقاليد قيمة حضاريّة تحتاج إلى شعب يؤمن بها ومستعدّ لتداولها وإشاعتها وفرضها على حساسيّة المجتمع ومزاجه ورؤيته، ويحتاج إلى نخبة لا تألوا جهداً في سبيل العمل على تحويل هذه التقاليد إلى قيم ثقافيّة راسخة في ضمير الجماعة، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك بلا جهود كبيرة واستثنائيّة تنهض بها النخبة لتطوير الرؤية من جهة، وتحويل هذه الرؤية إلى سلوك جمعيّ يجعل منها أمثولة عالية التداول من جهة أخرى، على النحو الذي يسهم في بناء ثقافة مجتمعيّة قائمة على الحفاظ على منجز التقاليد والدفاع عنها بقوّة، من أجل إحلالها داخل النسيج الحيويّ للثقافة لمنع التلاعب بها مستقبلاً بما يؤدّي إلى تخريب صورتها وضياع هيبتها.

يعكس حضور التقاليد على هذا النحو الأصيل ضرورات متشعّبة تضمن السبيل القويم للحراك السوسيوثقافيّ في 

المجتمع، وتجعل من حراك الشعب أو الأمّة على المستوى الفكريّ مساراً يحفظ 

الحاضر والمستقبل، ويفتح سلسلة من القنوات شديدة الأهميّة على مساحات الآخر للتفاعل معها وتبادل الخبرات والقناعات والرؤيات، بما يشحن التقاليد بطاقات جديدة وفاعلة تدفع باتجاه تطوير الأدوات وتخصيب الأفكار والقيم، وخلق أجواء صالحة للتفكير والمحاولة والمبادرة والتجريب والإبداع والابتكار؛ وصولاً إلى تشكيل فضاء ثريّ ينقل العقل المجتمعيّ من مجال راكد إلى مجال متحرّك، ومن وعي متقوقع على نفسه إلى وعي منفتح وقابل للاحتواء والتعاطي مع الجديد، ومن ممارسة محدودة في سياقها الزمكانيّ إلى 

ممارسة لا حدود لها داخل مساحة المكان وأفق الزمن.