قلقُ النهاية

منصة 2024/08/06
...

 ميادة سفر


يقول الفيلسوف الفرنسي باسكال: "إنني في حالة جهل تام بكل شيء، فكل ما أعرفه هو أنني لابدّ أن أموت يوماً ما، لكنني أجهل كل الجهل هذا الموت الذي لا أستطيع تجنبه". ذلك الشيء المجهول الذي لم تتمكن الروائية الاسترالية "كوري تايلر" تقبله عند تشخيصها بمرض السرطان، ولا تقّبل فكرة تحولها إلى عبء على عائلتها، فقررت أن تستعين بدواء يمكّنها من انهاء حياتها في اللحظة التي تتحول فيها إلى كائن عديم النفع، وكان أن اشترت "دواء يستخدم للموت الرحيم" تقول وهي تبدأ كتابة ذكرياتها مع الموت الذي يتربص بها في كتاب حمل عنوان "في معنى أن نموت" عن دار أدب للنشر والتوزيع، بترجمته العربية التي قام بها عبد الوهاب أبو زيد الذي أراد أن يخفف من قسوة العنوان الأصلي للكتاب dying إذ سمح لنفسه كما أعلن في مقدمته أن يتصرف بالعنوان لأن وقعه أقوى وأثبت في السمع والوجدان.

لطالما شكل الموت بما هو نهاية حتمية لكل إنسان قلق بشكل من الأشكال لأبناء بني البشر، لا سيما أولئك الذين أدركوا أن أيامهم في الحياة باتت معدودة، كالمحكومين بالإعدام أو المصابين بمرض عضال أنبأهم أطبائهم أن الوقت بات قليلاً جداً في حياتهم قبل أن يفتك المرض بكل خلاياهم ويقتلها، وهذا ما حصل للروائية وكاتبة السناريو الاسترالية "كوري تايلر" التي خاضت تجربة انتظار الموت بكل تفاصيلها المؤلمة، بعد تشخيصها بمرض السرطان بدأت حياتها تأخذ مساراً جديداً ومختلفاً، بدءاً من زياراتها المتكررة إلى قسم الأورام في المستشفيات، إلى دخولها في ندوات ولقاءات تحكي عن الموت ذلك الشيء الذي كثيراً ما نخشى التطرق إليه أو التحدث عنه، تقول: "على الرغم من حتمية الموت، يبدو من الغريب أنه لا توجد إلا فرص ضئيلة جداً للحديث عن الموت في العلن"، معتقدين أننا بذلك إنما نستحضره أو نجذبه إلى محيطنا وعائلتنا، ترانا ونحن نذكر الموت ولو عرضياً سرعان ما نقول "بعيد الشر"، رغبة في إبعاده واستبعاده من حياتنا على الرغم من ادراكنا الضمني أنه آت لا محالة.

استعرضت الكاتبة حكايتها مع الموت الذي لن يمهلها وقتاً كافياً لتستمع بالنجاح الذي حققه كتابها هذا ولا بردود الأفعال التي حظي بها، إلا أنها وأثناء رحلة علاجها الموجعة ستقابل العديد من الأشخاص الذين يماثلونها من الألم وربما أكثر، وهي تتأمل مستقبلها المظلم الذي تحاول استدعاءه بشجاعة تعترف أنها "محظوظة لعثوري على اخصائية لطيفة بارعة" محاطة بأسرتها وأصدقائها، كل تلك التفاصيل وغيرها من هواجس راودتها ستكون سبباً لإقدامها على كتاب هذا الكتاب "الأشياء ليست كما ينبغي أن تكون، بالنسبة لكثيرين منا أصبح الموت ذلك الشيء الذي لا يذكر، والصمت الموحش، ولكنّ هذا لا يمدّ المحتضرين بأي عون، أولئك الذين يعانون من الوحدة أكثر من أي وقت مضى".

في مواجهة "الصمت الموحش" وفي ثلاثة فصول يتألف منها الكتاب، أرادت "تايلر" أن تجعل لموتها شكلاً مختلفاً وربما أكثر حميميّة، ففي "المستشفيات لا نتحدث عن الموت، بل عن العلاج" فقد كانت تخرج من جلسات علاجها محبطة وكأن "إنسانيتها قد تم محوها" بينما تجد الشجاعة بين أصدقائها وأسرتها وهي تنتظر الموت المرتقب، تدخل في حوارات عدة وتتعرض لفيض من الأسئلة منها الشّخصي ومنها العام، تعلن من خلالها عن أفكارها ومعتقداتها بما فيها علاقتها مع الموت ورؤيتها لما بعده، فها هي تجيب على أحد الأسئلة "لا أؤمن بحياة بعد الموت، من التراب إلى التراب، ومن الرماد إلى الرماد يختصر الأمر بالنسبة لي، نأتي من العدم ونعود إلى العدم حين نموت".

"في معنى أن نموت" سرديّة تحاكي مرحلة ما قبل الموت، تقدمها الكاتبة بشجاعة وجرأة، إنه شهادة تعلنها أمام  مواجهة موتها، بطريقة مدهشة ومؤثرة، كانت واضحة أمامنا بكل تفاصيلها كوضوح الموت القادم إليها، الموت الذي لن تنتظره بقلق وخوف، بل بتحدٍ لدرجة الحديث معه وعنه والمشاركة بندوات ولقاءات للحديث عن ذلك الموضوع الحالة التي نخاف منها، استحضرت وهي تحاكي الموت الحياة بكل أفراحها وأحزانها وهشاشتها، لتتصالح مع كل ما حاولها، كل ما يشي وينبئ بالنهاية المرتقبة، كتاب قد يتردد البعض في قراءته لكنه جدير بها، وهو يفتح أمامنا نافذة لنعيد ترتيب حياتنا بما يليق بنا واستغلال اللحظات التي نعيشها والأشخاص الذين نحيا معهم.