النزعة الأخلاقيَّة في سرد الحيوان

ثقافة 2024/08/07
...

د. نادية هناوي

يمثل اتجاه ما بعد الإنسان شكلا من أشكال سرد الحيوان، وتبناه مفكرون رفضوا شرور البشرية التي لا يدمر بعضها البعض الآخر فحسب، بل معها الكائنات الحية التي هي بالعموم ضحية أنانية الإنسان، الأمر الذي يتطلب موقفا ما بعد إنساني يعيد لتلك الكائنات حقها في أن ترفض وتقاوم وتندد بأفعال البشر الشريرة، وتدافع عن حقها في حماية نفسها.
ومما تفرع عن اتجاه ما بعد الإنسان، النزعة الأخلاقية في سرد الحيوان من ناحية المقاربة بين البشر والحيوانات البرية والأليفة، وإثبات أن لا تمييز في التسلسل الهرمي بين الكائنات يستدعي احتقار الحيوان أو اضطهاده. وهذا المبتغى هو الغالب على تعالق سرد الحيوان بسرد البيئة، وتعود مرجعياته إلى فلاسفة قدماء كانت لهم آراء أخلاقية في الطبيعة البشرية؛ منهم أبيقور وأفلاطون وأرسطو الذي عدَّ الإنسان حيوانا ناطقا.
وتأثر أبو نصر الفارابي بهذه الآراء وطرح سؤاله الأنطولوجي المهم: الإنسان أي حيوان هو؟ وذهب في الإجابة عنه إلى حقيقة أن ما يميز الإنسان هو أنه حيوان ناطق (ينطوي فيه الحيوان بالقوة لا بالفعل، فالناطق لا يدل على ما هو إنسان أكثر من أنه حيوان). وبذلك تكون المساواة حتمية بمنطقية أن الخلق واحد. وافترض الفارابي لو أننا سألنا كيف هي الزرافة أو كيف هو الجمل؟ ( لكان الذي يليق أن يجاب به أن توصف لنا أجزاؤه التي بها التئامه.. إن ماهيات الأجسام كلها خلق في كل واحد منها). ومثّل الفارابي بالمثلث على فكرة أن الإنسان موجود حيوانا بالذات، إذ كما أن المثلث موجود بزوايا مساوية لقائمتين بالذات، بمعنى أن وجوده وماهيته يوجبان أن زواياه مساوية لقائمتين، كذلك وجود الإنسان وماهيته يشيران إلى أنه حيوان مشاء ذو رجلين .
وانتقلت أخلاقيات الفلسفة الإسلامية عامة والفارابية خاصة إلى مفكري العصور الوسطى وأثرت في من جاء بعدهم، حتى إذا وصلنا إلى القرن السابع عشر، غدا الاتجاه الأخلاقي واضحا في الفلسفة الأوروبية على يد ديفيد هيوم، ثم توضح أكثر في القرن الثامن عشر على يد فلاسفة معروفين تبنوا مبدأ المنفعة، منهم جيرمي بنتام وجون ستيوارت ميل، فأما بنتام فذهب إلى أن سعادة الجنس البشري هي في النظر إلى ما هو أدنى، وأن قسما كبيرا من البشر سيسعد من جراء الإحسان إلى الحيوان، فيعامله لا ككائن أدنى، بل كشخصية بشرية. ورأى أن من الفضيلة رعاية الحيوان. أما جون ستيوارت ميل، فرأى أن للكائنات ملكات، وإذا ما وعى الإنسان ذلك، أدرك أن لا شيء يعتبر سعادة ما لم يتضمن الاعتراف ( بقدرة الذوات البشرية على التضحية بأكبر خير لهم لما فيه خير الآخرين) .
وظهرت في القرن التاسع عشر دعوات لتحرير الحيوان، ولكن الغرض منها لم يكن أخلاقيا، بل كان مقصودا منه التهكم الساخر من دعاة حقوق النساء وتحرير العبيد من الرق.
ولم يتمثل روائيو القرن العشرين الاتجاه الأخلاقي في سرد الحيوان بصورة مباشرة ودفعة واحدة، وإنما حصل الأمر بالتدريج، فكان أن بدؤوا أولا بإيلاء الحيوان الذي يعيش في كنف الإنسان اهتماما عبر جعله شخصية من الشخصيات المساندة وربما المشاركة في البطولة مع الشخصية المحورية. ومن خلال التركيز على الحيوان يتمكن السارد من عرض بعض المسائل التي لها صلة مباشرة بمعيشة الحيوان والرفق به ومراعاة كينونته وإدراك ردود أفعاله، إلى غير ذلك من المسائل التي تصب في صالح الحيوان ومن أجل الإنسان أيضا.
ومن الكتّاب الذين أولوا النزعة الأخلاقية اهتماما واضحا واتجهوا بالسرد وجهة ما بعد إنسانية، ترومان كابوتي بروايته (بدم بارد)، وتدور أحداثها حول شخصيتين هما (دك) و(بيري)؛ الأول هندي أحمر والآخر إيرلندي، الأول يعزف على الغيتار والآخر يغني، وما بينهما شخصية السيد كلاتر التي تظهر بقوة لتلعب دورا محوريا يوازي دور هذين البطلين، من خلال ما يوليه السارد العليم من تركيز على الكلب تيدي الذي كان واجبه حراسة مزرعة سيده، بعد ذاك الحدث المريب الذي حصل في القرية وجعل الناس في حالة خوف وترقب، (أهل القرية الذين كانوا حتى ذلك التاريخ مطمئنين بعضهم إلى بعض، فلا يجد أحدهم حاجة لإقفال بيته، وجدوا أنفسهم بعد ذلك أمام حدث خيالي خلخل كيانهم وأعاد صياغتهم من جديد).  
وهنا يبرز دور الكلب تيدي الذي كانت له نقطة ضعف تجعله في موضع الدفاع لا الهجوم إزاء اللصوص الغرباء. وبسبب نقطة الضعف هذه قضى اللصوص على عائلة السيد كلارك كلها، وعلى الرغم من ذلك، فإن مشهد الكلب ظل يؤنب ضمير السارد الذاتي أكثر مما تركته فيه صدمة مشاهدة العائلة المقتولة، (في منتصف الممر المفضي إلى بيت عائلة كلاتر، رأيت كلب كينيون العجوز خائفا يقف هناك وذيله بين ساقيه، لم ينبح أو يتحرك. مرأى الكلب أعاد لي حواسي مجددا، فقد كنت مبهورا ومصدوما إلى حد أنني لم أشعر تماما ببشاعة ما رأيت من رعب، كانوا ميتين، العائلة بكاملها، هؤلاء الناس اللطفاء الودودون، أناس أنا أعرفهم مقتولون.).
إن هذا التعاطف مع حال الكلب تيدي الذي بقي في حالة يرثى لها وحيدا عاجزا، هو يقظة ضمير باتجاه أخلاقي يشعر بالحيوان ويدافع عنه وينتصر لمسائله.