غازي السعودي.. خزين المعرفة والتراث العراقي

ثقافة 2024/08/07
...

 خضير الزيدي

ما أن تتحدث عن فن الجداريات في العراق إلا ويأخذك الحديث لأهم مؤسسي هذا الفن، وهو غازي السعودي، الذي يعد ممن عاصر الجيل الستيني، فقد تمسك منذ بواكير انطلاقته الفنيَّة بالتعامل مع الفن الجداري، وأسهم في إحياء وتوظيف العلامات التراثية والأسطورية        والتاريخية، وعزز ذلك في إنجاز جداريات بقيت شامخة ليومنا هذا في بغداد "كجدارية بغداديات في مدخل المتحف البغدادي، وجدارية الزوراء بالموزائيك" وغيرها ممن بقيت في معالم مدينة بغداد. وما يلفت إليه انتباهنا أن مهارة الفنان وقواه الابداعية استمدت روح التشارك الحي مع الموروث العراقي، وكأن يصر على رسم كل ما من شأنه أن يشير إلى التراث المحلي، وهذا الجانب يوضح لنا مسار الفنان وفقا لعقيدته وهويته، وحتى مخزونه العاطفي، وبات مساره الاسلوبي من حيث الانشاء والتكوين الفني مكتملا بما يؤدي رسالته الجمالية والفنية في عرض فن الجداريات، بالشكل الذي يبرز لنا قدرته وسياق اشتغاله بما
يخاطب به المتلقي والذاكرة الجمعية.
ومن هذا المنطلق بدت لنا أعماله مزيجا ملتهبا من قدرة فن يجمع بين الواقعي والأسطوري والرمزي والوجداني، وكل تلك الايحاءات المتواجدة في متن خطابه الفني كانت قابلة للتأويل والقراءة، ولا تتوانى في إبراز معالم جماليتها، من حيث ما تحمله من شحنات عاطفية وعودة إلى الموروث المحلي والتاريخي.
ولعل براءة هذا الفنان جعلت جدارياته تبدو موحدة، وفقا لبناء اسلوبي يجعل فنه واضح المعالم، بعيدا عن الغموض والغرائبية، مع أن مظاهر الوحدات المتواجدة في متن العمل تنم عن اختلاف وتعدد يبدو ما ورائي، إلا أن وحدة الموضوع في العمل بقيت قاعدة أساس، نتطلع من خلالها إلى طبيعة العمل وما يحمله من دلالات ومهيمنات شكلية تعلن عن رؤية مفادها أن واجهة الفن الجداري قابل للدرس، وكشف ما كان ذاتيا وليعلو من سمات هوية البلد والمكان
التراثي.
أنتج هذا الفنان جداريات كانت تميل إلى الصنعة الجامعة لوحدات انشائية تسجل في بيانها الشكلي وحدة موضوع، بمعنى أن عمله انسجم مع تلقائية وذاكرة مكان واشتغال رمزي، استثمر فيه الحكايات والأساطير والرموز الرافدينية من دون ادنى انفصال من وقائع ويوميات الحياة العراقية. وهذا يفسر لنا مجمل خطابه البصري وحساسية موضوعاته، وكانت عناصر الطبيعة متواجدة مثلما متواجدة معالم الإنسان والحيوانات التي يتعامل معها الفرد من ضمن البيئة الريفية او الاجتماعية، فما الذي جعلنا نتذكر هذا الفنان؟
تتصف أعماله الفنية الكبيرة بأنها ذات سمات بنائية متشابكة الوحدات متوحدة المضامين، ومع أنها كبيرة وواسعة، إلا أن ممارستها تعد تمثيلا حيا لقدرته وذهنيته وخياله الخصب وبانت أمام أعيننا بأن أية جدارية له، إنما تنفتح على خيارات جمالية عدة، لأن ما يؤازرها من حيث البناء الشكلي، انما جاء نتاجا لصرامة في البناء والإنشاء الفني. وأعتقد أن استعاراته المختلفة محاولة جادة لفهم مرجعيته الفكرية فكل ما نلتمسه من حيوية وإيحاء صوري  يجعلنا نقف منذهلين لمعرفة الحيز التنظيمي في تعدد خياراته وفرصة الاهتمام بها.
نعم قد نجد مدونات بصرية لها مرجعيات من التراث العراقي، ولكن المهم فيها ذلك الأداء التعبيري الملتصق بمظاهر التنظيم والبنائية في العمل الواحد، مع الاحتفاظ بمركزية لكل تلك الاشارات والتصور التعبيري الجاد، فالذي تحقق على يد هذا الفنان، لم يكن قائما أو بسيطا، بل بانت معالمه من خلال خصوصيته ومرجعيات تجربته، التي تعد نموذجا في الاشارة إلى ما قدمه الستينيون من أعمال خالدة.. فما المختلف والمميز عند غازي السعودي؟
استعاد هذا الفنان جوهر التراث المحلي وقدمه أمام المتلقي بطريقة الفن الجداري، واستحضر تاريخ المكان بإيقاع بصري ثمين طغى على معالجاته الحس المحلي، فكل مفرداته لم تكن إلا من صلب الحياة والمكان معا. ومن هنا جعل دلالة الرموز والعلامات وحتى المفردات، التي تشير الى الزخرف والمنمنمات ذات طابع لافت من التعبيرية في فنه. وقد نجد ذات التصور في لوحات تتخذ من الجمع بين الفن التجريدي والتعبيري، وقد يبين لنا أساس عمله عن وجود نزعة متمثلة بالبراءة في التعامل مع الفن هذا، لأن أعماله في تلك الهيئات المتواجدة حققت عفويتها في أشكال أقرب للوجدان والتداخل النفسي مع المحيط الحياتي. نحن أمام فنان ترك جدارياته ورحل، ولكن فنه وكل علاماته الشكلية ستبقى قابلة للتأويل والقراءة والحضور أمام أعيينا.