المهرجانات العربيَّة.. البحث والاجتهاد والمشاكسة

منصة 2024/08/07
...

 د.عواطف نعيم  *

هي ظاهرة بدأت تفرض حضورها وتعلن عن ذاتها بثقة العارف. ماذا يريد ولأجل من يسعى، انبثقت مهرجانات في بلدان لديها في الأساس مهرجانات تقليديَّة تباشر عملها في مواسم معينة وذات توجهات محددة اتفق المشاركون فيها على صيغتها وآليَّة الاشتغال عليها وتعودوا التوجه إليها في أوقات معينة من السنة. لذا كان هناك شبه اتفاق غير معلن على تنسيق انطلاق دورات المهرجانات في هذا البلد العربي أو ذاك، ضمن تواريخ زمنيَّة متفق عليها. ولكن باب الاجتهادات والبحث ما زال مفتوحا أمام العقول الباحثة والمتفحّصة والساعية إلى ابتكار يكسر السائد والتقليدي، والذي يستطيع أن يفتح آفاقه أمام الجديد وغير المألوف.
ولأنّ العقل الإنساني خلّاق ومتنوّر، كان لا بدَّ من حدوث اقتراحات وتوجهات لخلق مساحات مستحدثة تبث الحياة في الجسد المسرحي المتحرّك، وكما ابتكر العقل العربي مهرجان الهيئة العربيَّة للمسرح والذي غيَّرَ في خارطة المهرجانات المعروفة والمتواجدة سنوياً في بلدانها، استطاع مهرجان الهيئة العربيَّة للمسرح أن يغيَّرَ في مسار الحراك المسرحي العربي، ولا سيما حين أخذ يتنقل بين الأقطار العربيَّة ويحفّز الساكن فيها إلى تفعيل الحياة في فضاءات وأماكن يستطيع المسرح أن يتخذ منها حاضنة للعمل والإنجاز. وكما ابتكر العقل العربي الجديد في المسرح بولادة الهيئة العربية للمسرح ابتكر مهرجانات أخرى ذات خصوصيَّة ومغايرة منحته اختلافاً وتميزاً، فمهرجان إيزيس الدولي للمرأة، والذي انبثق بجهود مبدعات عربيات كاتبات وممثلات ومخرجات، ولد ليعلن عن حياة جديدة تنبعث من مفهوم المسرح النسوي الذي تقوده وتخطط له نسوة ملهمات يمتلكن القدرة على القيادة والتوجيه والاختيار الدقيق، والموجب في التعريف بهموم وتطلعات وأحلام النساء في أرجاء العالم، وليس فقط في الوطن العربي الذي بات يضطرب ويضج بالعنف وسيطرة الآلة و"السوشيل ميديا" والانحرافات الجنسيَّة، والغلو السياسي المتعسّف والذي تدفع المرأة ثمنه دوماً!
جاء مهرجان ايزيس الدولي  للمرأة في مصر ليسلط الضوء على أسماء غلفها النسيان، وغفلتها العيون فجاء ليضيئها بالتذكر والشكر والعرفان فكانت دورته الأولى تحمل اسم الكاتبة الكبيرة فتحية العسَّال، وجاءت دورته الثانية لتحمل اسم الفنانة المبدعة عايدة عبد العزيز. والمهرجان هذا من مميزاته أنه لم يكتفِ بتقديم العروض المسرحيّة المتنوّعة في اشتغالاتها، بل عمد إلى إقامة الورش التدريبيَّة لفنون المسرح في الرقص والسينوغرافيا والأداء والصوت والإلقاء وفن التمثيل، وأضاف أيضاً إلى منهاجه الندوات الحواريّة والجولات التعريفيّة بمصر ومعالمها السياحيّة الملفتة.
مهرجان ايزيس الدولي للمرأة، هو واحد من المهرجانات الجديدة التي لا بدَّ أن تدعم وتبارك جهود السيدات المناضلات في مصر الحضارة، كي يستطعن أن يمنحن الحياة لاستمرار هذا المولود الجديد والذي سيكون له تأثيره وتفرّده في المقبل من الأيام، إذا ما توفر له الدعم والرعاية من لدن وزارة الثقافة المصريَّة كما يستحق.
أما المهرجان الآخر، والذي لا بدَّ من الحديث عنه والتعريف به، فهو مهرجان الرحالة الدولي للمسرح المغاير والذي يقام في الاردن، ميزة هذا المهرجان في جدته أنه يبحث عن حاضنة جديدة لتقديم العرض المسرحي، أي أنه يدعو للتحاور مع الأمكنة من خلال الفضاءات المتعددة وطريقة توظيفها لاحتواء المنجز الإبداعي للفنان، الخروج من رداء العلبة الايطالية والخروج عن النمط التقليدي في آليَّة التعامل والاشتغال على طبيعة التقديم، هو مغامرة تحتاج إلى المعرفة والخبرة والتحلي بروح المجازفة والابتكار. لذا جاءت عروض هذا المهرجان في دورته الثالثة ملفتة ومثيرة، فالأمكنة والفضاءات صارت متحركة ومغايرة لما اعتاد عليه المتلقي، فالحديقة أصبحت مكاناً للعرض، والصالة تحولت إلى فضاء للفرجة، والساحة المجردة باتت مكاناً للأداء التعبيري، والممثل الساحر والعرّاف الأول يدور مضيئاً هذه الأمكنة معلناً عن ولادة العرض المسرحي، ويدور معه المخرج  صاحب المخيلة المبتكرة ليخرج المكان من كونه مجرد ساحة إلى فضاء مسرحي، توزعت فيه المفردات الموحية وتجلت فيه الاضاءة المعبّرة لتعلن عن التحولات والتبدلات في الانتقال والدلالة والتعبير عبر البصري الدال.
وهذا المهرجان لم يكتفِ بتقديم العروض المسرحية، بل عمد هو الآخر إلى اقامة الندوات التي تبحث في مفهوم المغايرة والحداثة في توظيف الأمكنة، وإلى تقديم الورش المسرحية لفن الممثل الصامت وتأثير السينوغرافيا والتدريب الموسيقي للصوت البشري. هذه المهرجانات تفتح لنا أبواب المعرفة مشرعة للبحث والاجتهاد والمغايرة والمشاكسة أيضا، ليس لتجديد آليَّة الاشتغال في المسرح فقط، بل لتجديد روح المغامرة والابتكار المغاير للعقل الفني الخلّاق الطامح إلى التميّز والتفرّد في مخاطبة العقول الإنسانيّة عبر لغة جماليّة وفكريّة تمتلك حضورها المدهش والمحفّز لركن القناعة، والبحث عن التغيير الإيجابي، ومدّ جسور الجذب والاجتذاب ما بين صنّاع المسرح والمتلقين فيه.

* كاتبة ومخرجة مسرحية