الثمانينيّون.. البارودُ فوق الباليت

ثقافة 2024/08/08
...

 علي وجيه


إن كان جيلُ الروّاد جيل تشكّلٍ وخلق هويّة، وكان الستّينيون جيل تمرّد وتعبير "أمميّ" عن ذواتِهم بالاستفادة من شتّى العناصر التي يُمكنُ إعادة إنتاجها (من التراث الميثيولوجي - الآثاري إلى الشعر العربيّ إلى الحوادث العالمية والإقليمية)، وإذا كان السبعينيون هم الجيل الهادئ نسبياً، فإنّ الثمانينيين هم الجمرة التي ألقاها التاريخ في جيب التشكيل العراقيّ، ولفهم تمركزِهم والإفراط بتنوّعهم، لا بُدّ من فهم السياق السياسي – التاريخي العراقيّ تحديداً، ويصحّ ذلك على فهم الفن الثمانيني ليس بالتشكيل وحده: وإنما في الشّعر والمسرح والسرد وغيرها من فنون.

شبّانٌ يكبرونَ بفترةٍ نادرة من الازدهار الاقتصادي والهدوء السياسيّ، سبعينيات العراق الساحرة، والتي انشغلَ فيها البعثيون بالسلطة، وما يُشبه الهدنة المؤقتة مع الخصوم الحُمر "الحزب الشيوعي العراقي"، بل وتنفّس العراق الصُعداء نسبياً بما كان يُسمى بـ "الجبهة الوطنيّة" بين الحزبين، لكن العراق لا يعرفُ أن يستمرّ بهدوءٍ يُشبِهُ هذا، فانهارت الجبهة، وبدأ صدّام حسين بإحكام قبضته على كلّ ما يجري، ووجد هؤلاء الشبّان الحالمون مصائرهم وقد حُكمت من نظامٍ سياسيّ فولاذيّ.

وجد هؤلاء الشبّان أنفسهم بأزاء حربٍ عملاقة، لا أفق يتضحُ لإنهائها، فارتدوا الزيتونيّ، وفارقوا قاعات الدرس تحت يد كاظم حيدر وفائق حسن والنقاشات في أندية الأكاديميّة، ليتحوّلوا جنوداً، المحظوظ منهم مَن انتبه العسكرُ إلى أنّه يعرفُ كيف يرسم، أو كيف يكتب بخطّ جيد، ليكون في القلم، لا في الحجابات ولبّ معاركها.

إنتاجُ الرسم تحديداً، وما يتصلُ به، يحتاج إلى ما لا يحتاجه الشعر، ولعلّ هذا ما جعل النتاج الثمانينيّ قليلاً فيما يخصّ عدد الأعمال المُنتجة، قياساً بالستّينيين مثلاً، فالإجازات شحيحة، والموادّ أكثر شحّة، وقلق الموت لا يُتيح للفنّان هذا أو ذاك البحث داخل سطح اللوحة، فكان الثمانينيّ منهم يجمعُ طاقته لتكون بعمل مركزيّ واحد، أو أعمال قليلة، ويشترك بها في معارض جماعية.

لكنّ سياقاً ثانياً للثمانينيين يتّضحُ بين الحين والآخر، وهي ورقيّات المعارك، فخطّط الفنّانون أعمالاً ورقية كثيرة، تجسّدُ زملاءهم الجنود، نائمين أو مصابين أو شهداء أو أيّ شيء، وأغلبها بقلم الجاف أو الروترنغ، وثمّة نماذجُ معروفة منها لستّار كاووش، سيروان باران، وعلي آل تاجر، وما يزالُ الأخيران في تأثير الحروب وتظهرُ بين الحين والآخر عناصر واضحة من تلك الجغرافيا الكالحة، والزمان المُر.

الضاغطُ السياسيّ لم يكن وحده، وهذا ما يأخذنا إلى كثرة التجارب وتنوّعها، لكن هؤلاء الشبّان كبروا وكان كلّ الرواد تقريباً أحياء، وفعّالين، ونشطين، أن تكون فناناً وما يزالُ فائق حسن وكاظم حيدر وشاكر حسن آل سعيد وسعد الطائي ومهر الدين ومحمّد علي شاكر ورافع الناصري وغيرهم فعّالين: فهذا تحدٍّ أكثر من كبير.

أميلُ لتأويلٍ، فيما يخصّ الشعر، يقولُ: إن وجود الظلّ الثقيل لشاعر كبير مؤثر مثل محمّد مهدي الجواهري دفع الشعراء الروّاد الحداثيين للهروب من "سجن" الشعر العمودي، وسقفه الأعلى أبي فرات، إلى مساحة الشعر الحر، ولعلّ الهروب من ظلّ فائق أنتجَ لغةً بصرية أخرى، في حين كان عددٌ من مُريديْ فائق واقعين تحت ظلّهِ بشكلٍ مؤذٍ، يخدشُ جزءاً أساسياً من 

تجاربهم. 

وثمّة سبب آخر، وأميلُ هنا أيضاً للمقاربة الشِعرية التي كانت تجري في الشعر الثمانينيّ، أن عدداً من هؤلاء الشبّان، كانوا ذوي قلوبٍ يساريّة، وكما ابتعدَ عددٌ لا بأس به من الشعراء الثمانينيين عن الكتابة للمعركة، ولصدّام، وأنتجوا نصّاً حداثياً مغلقاً، مُرمّزاً، لا يقولُ شيئاً، وتم إنتاجه بوصفه موقفاً سياسياً، ذهب عددٌ من التشكيليين إلى مناطق مشابهة، بعيداً عن صدّام والمعركة أداءً، وبعيداً عن ظلّ فائق القويّ، فعملَ "جماعة الأربعة" مثالاً لا حصراً بمناطق مختلفة: فاخر محمّد بعوالمه الأليفة مُعيداً إنتاج علاماته المنطلقة من عناصر التاريخ والطبيعة بطريقته، ومضى عاصم عبد الأمير ليحفر بمنطقتين: التجريد من جهة، بأعمال نادرة، ثمّ التبسيط الطفوليّ، وتداخلَ الراحل محمّد صبري مع ذاته، لينتج أعمالاً قليلة للإنسان الوحيد، المُحاصر، المجروح نرجسياً، فضلاً عن تمرينه المستمر لأعمال الطبيعة مع الطلبة، فيما لجأ حسن عبود إلى التجريد التام، وما يزالُ يحفرُ فيها إلى اليوم.

لكنّ ثمة ما هو أوسعُ من البصر، وهو الحفرُ المعرفيّ في العمل، وتلك منطقة لم تكن منطقةَ هروبٍ فحسب، لكنها كنت أداءً حرّاً بتأثيرات من شاكر حسن آل سعيد، الفكريّة، وعمل على تجاربها هذه هناء مال الله، كريم رسن، هيمت محمّد علي، مثالاً لا حصراً، وهي أعمال تستندُ على الإشارات الشحيحة، وعلى بُعدٍ تأويليّ واسع، وانطلاق من البُعد المعرفيّ أكثر من البُعد الأدائيّ 

التشخيصيّ.

ما نفعَ الثمانينيين بشكلٍ مباشر كان تتلمذهم المباشر على خيرة ما أنتجته الدولة العراقية من معلّمين وفنّانين، أحفظُ كلمةً للراحل عاصم فرمان قال فيها "درّسني الجميع عدا جواد سليم"، وحتى الآن نرى أثر تعليم رافع الناصريّ في فنّ الكَرافيك، ومحمّد علي شاكر بالألوان، وفائق حسن وشاكر في تاريخ وفلسفة الفن، وأبويّة كاظم حيدر السلوكيّة، وغيرهم واضحاً في ذلك الجيل، بل واستمرّ دعم هؤلاء الأساتذة لهذا الجيل نقدياً، فكتب شاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري مثالاً لا حصراً، عن أهم فناني الثمانينات مقالاتٍ ضمّتها مؤلفاتهم فيما بعد، وتبعهم بذلك الاحتفاء نقّاد وفنّانون آخرون مثل: عادل كامل، شوكت الربيعي، سهيل سامي نادر.

لم تكن سطوةُ البعث على السطح البصريّ مثل سطوته على المتن الشعريّ، فتأويلُ سطرٍ معيّن لم يكن ليفلتَ من أخطر مثقّفي البعث الذين كانوا يديرون الصحف والمجلات، لكن يد السلطة كانت أخف في التشكيل والنحت: في الشعر لا تحضرُ أم الشهيد إلاّ مُزغردة، وفي السرد كذلك، لكنّكَ يمكنكَ أن ترسمَ نظرة الحزن على وجه الثكلى، أو تصوّر الجنديّ مُنهكاً ومُتعباً، ولعلّ إدارة مشهد التشكيل العراقي آنذاك من العائدين دراسة من الخارج، الذين كبروا في الخمسينات والأربعينات المسترخية إلى حدٍ ما، جعلهم يتغاضون عن تلك التأويلات إن وجدت، بشكلٍ كبير، وهنا أعني فنّانين مثل: ليلى العطّار، عامر العبيدي، سعد الطائي، وغيرهم ممّن أداروا المرافق الثقافيّة المهمة، للدولة عموماً وفي وزارة الثقافة والأكاديمية خصوصاً.

ومثلما أن أكثر جيل ثقافيّ في الشعر قد غادر العراق في التسعينات، فإن ذلكَ انطبقَ أيضاً على التشكيل، وكانت عمّان الملاذ، وبشكلٍ أقل: سوريا، ثم أوروبا، ووجدَ الشبّان الذين كبروا في التسعينات أساتذتهم أمامهم، وظلّ التلاقح والموائمة حاضرين في هذا المشهد، قبل أن يستمرّ الشَتات وينتشروا في أرض الله الواسعة، بحثاً عن كسرة حريّة، فتجددتْ تجاربهم، وصار معظمهم فنّانين ناجحين ومؤثّرين ومعروفين في شتّى أنحاء العالم، مثالاً لا حصراً: صادق كويّش، سيروان باران، علي جبّار، هناء مال الله.

في البحث عن النسق الثقافيّ فإنّ الحرب لم تغادر أيّاً من هؤلاء الفنّانين، حتى الذين عملوا على المناطق التجريديّة، بل ومَن بالغَ في العمل على غير المرئيّ، مثل هيمت محمّد علي، يقول بشكلٍ واضح: إنني أعملُ على هذه المنطقة لفرطِ ما رأيتُ من السواد. وهذا ما قاله لي بشهادةٍ شخصيّة شفاهية، فحتى المبالغة بالتزويق والمسرّات والأجواء العاطفية، هو هروبٌ من تلك الحرب الحاضرة، وهذا ما يجسّدُ الفرق مثلاً بين تجربة ستّار كاووش الثمانينية، وتجربته اللاحقة "التركوازية" في هولندا. 

فضلاً عن ذلك، فإن خروجهم المبكّر من العراق، بالنسبة لأعمارهم، صنعَ فرقاً بين الثمانينيين أنفسهم: بين الداخل والخارج، وصار التطوّر بتجارب فنّاني الخارج أسرع وتيرة، واستخداماً لخاماتٍ أكثر، واطّلاعاً على تجارب العالم بشكل موسّع، وهذا ما لم يجده ثمانينيّو الداخل، في زنزانة صدّام الكبرى. 

ستبقى التجربة الثمانينية العراقية الأشد توتّراً، وتنوّعاً، بسبب ما حدث في هذه الأرض المُنهِكة لمثقّفيها، وأثّروا بشكلٍ واضح في الأجيال التي تلتهم، وحتى اللحظة فإن جزءاً أساسياً ومركزيّاً من التجريب، والحضور، والتأثير، هو لهؤلاء الذين شمّوا البارود مع رائحة الألوان الزيتيّة، وهربوا من اللون الخاكيّ إلى لونٍ لا حصر له، ومن إرثٍ بصريّ عراقيّ كبير إلى امتدادٍ وتجديد لتلك 

المرحلة.