ثراءُ النصِّ المرئي في المناخ العراقي

ثقافة 2024/08/11
...

 د. جواد الزيدي

ضمن برنامجها السنوي أقامت جمعية التشكيليين العراقيين على قاعتها الرئيسة معرضاً للطبيعة العراقيَّة جزءاً من معارضها التخصصيَّة للاتجاهات والمدارس والأجناس الفنيَّة.
هذا المعرض الذي يشترط فيه تناول الطبيعة العراقيَّة من دون غيرها، فضلاً عن أصالة المنظر وعدم نقله أو استنساخه من مصادر أُخرى، يجري فيه التنافس على المشاركة من فناني الوطن بكامله، حيث تصطفي لجنة اختيار الأعمال الأفضل منها على وفق الضوابط الفنيَّة والاشتراطات أعلاهُ من أجل أن يُمثل المعرض تنوعات تضاريس الطبيعة العراقيَّة ومناخها وحياتها الاجتماعيَّة. وأن تباين المستويات في حالة المعارض الجماعيَّة أمر حاصل لا محالة منه، لاختلاف التقنيات والإمكانيات الفنيَّة ووجهة النظر التي يتأطّر بها العمل الفني، ما ينتج بذلك اختلافاً
مؤكداً.
اشتملت المشاركات على (61) عملاً فنيَّاً تنوّعت بين الزيت والأكريلك والألوان المائيَّة في تصيرها التقني، بما يتناغم، أو يتواءم مع طريقة التعبير الذي تحتاجه الممارسة الرسوميَّة، كما أنَّ التنوّع شمل التضاريس التي تمظّهرت على السطح التصويري تبعاً للمرجعيات البيئيَّة والاجتماعيَّة التي ينتمي إليها الفنان، أو الذي وجد نفسه فيها وتمرّس في رسم ما هو أمامه وحوله، ليصل في النهاية الى إتقان على مستوى المعالجات الفنيَّة والمضمونيَّة والتعبير عنها، وليس استنساخها مع المحافظة على جوهر العمل الفني، أو كينونته الخاصة الموحية بالمرجع البيئي المحدد. من هنا نجد ملامح "الأهوار، والبيوت الطينيَّة، والسهل، والجبل، والصحراء، والنخيل" وهذا الأخير "النخيل" تجاوز المساحة الأُخرى، بوصفه ممثلاً للهويَّة البيئيَّة التي يتميّز بها المناخ العراقي وجزءاً من ثروته الوطنيَّة.
وعلى الرغم من التنوّع في نقل تضاريس الوطن عبر مناطقه المحددة والمألوفة، إلّا أنَّ سيادة مناخات السهول الخضراء، وحقول المزروعات التي يتقدمها النخيل مع تصوير بنى مجاورة لتلك العلامات المهيمنة "النخيل" في فضاء الرسوميَّة، إذ تبرز أحياناً طبيعة الحياة العراقيَّة من خلال قطعان الأغنام والرعاة والفلاحات وغيرها، بما يتجاوز رسم البيئة والتضاريس الى الفضاء الاجتماعي وحياة الناس وواقعهم المعيش، لكي تكون اللوحة وثيقة يمكن العودة إليها أو تدوين المحطات الاجتماعيَّة من خلال الصورة حين تكون سيرة وطن يُمكن قراءتها ليست بالكتابة، إنّما بالصورة، فضلاً عن إعادة إنتاج الواقع والطبيعة المفقودة على أساس الواقع الفعلي في ضوء ممارسات تقويض ملامح البيئة نفسها وعمليات التجريف المستمرة لها، بما ينتج ملامح أُخرى لم نتعرّف عليها من قبل، أو قد يكون هدف المعرض وغرضه وقائيَّاً باِمتياز يكمن في لحظة التذكير بأنَّ هذه التضاريس هي هوية
وطن يجب المحافظة عليها.
 ولذلك كان المعرض يحتفظ بمراميه الثقافيَّة التي تتقدم الوظيفة الجماليَّة الواجب توافرها في كل عمل فني، بيد أنَّ الوظائف المتعددة اذا تلاقت فإنّها تنتج قيمة أكبر مما يجب العمل عليه. لذا تميّزت أعمال كل من "آراس لزكين، وحنان حامد، وسماح الآلوسي، ورائد منصور، ورائد فرحان، وعمر المطلبي" باِنزياحها نحو بيئة تقترب من تضاريس الجبل والوادي وما حولهما من مكونات بيئيَّة، لترسم جزءاً من خارطة الوطن أو تعيد تأثيثه من جديد بفعل معطيات سلطة التخيّل التي يمتلكها كل منهم، فضلاً عن قيم لونيّة مفارقة حسب رؤية الفنان القائمة باِختيار هذه المنظومة التي ستكون رافداً مهماً للعلامة الشكليَّة والإسهام في إنتاج مناخ خاص باللوحة أو الخطاب الفني بخصوصيته الفردانيَّة، أو سماته الجمعيَّة التي تنضوي تحتها هذه المجموعة. واقتربت بعض الأعمال من التجريد في سعيها الى إنتاج خطاب ينتمي للطبيعة ومحاولة تجريدها وتفكيك بنياتها الى لون وكتلة وعلامة تؤطر السطح التصويري، كما في أعمال "مراد ابراهيم، وباسم
الحاج".
 فيما هيمنت أسراب النخيل والحقول الخضراء على المتبقي من الأعمال الفنيَّة سواء تصيَّر ذلك بشكل واقعي عند نقل المشهد المصوّر، أو التعاطي معه بحساسيّة تتجاوز ذلك باِستخدام تقنية الألوان المائيَّة التي تتسم بالشفافيّة مثلما فعل "صفاء السعدون، وأنوار الماشطة، وعاصم عبد الأمير، وعلي هاشم صالح، وليلى عبد الأمير، وعماد قدوري، موسى عباس، وناجي حسين، ويوسف حسون، وعلي طهبوش، وعمار مزهر"، واقتراب هذه التجارب من طرائق التعبير التي جاءت بها الاِنطباعيَّة حيث البحث عن ألوان "قوس قزح" وتصدير البنفسجي منها ليكون هو المهيمن في دلالة اللون مع إخفاء بعض الملامح وتغييب بعضها وحذفه في ضوء اللون الممزوج المنتج للخصائص الفنيَّة.
وامتاز القليل منها في التعبير عن تضاريس الأهوار من خلال العلامات الدالّة والرئيسة في تكوين المشهد الممثلة في "بيوت القصب والبردي، والمستنقعات، والجاموس" هذه المفردات التي تُشير الى فئة اجتماعية متعيّنة يمكن الاستدلال عليها بسهولة، وهذا ما رصدته عين عباس هاشم صالح على وجه الخصوص واقترب منه "سرمد يوسف، وكميلة حسين، وشميران صميخرو" بوصفها مداخل أساسية للمستنقعات المائيَّة والأهوار، في حين حاول القسم الأكبر رسم القرى، وحقول النخيل، والأشجار الأُخرى كل حسب مساحة رؤيته، وتأثير المحيط الخارجي عليه، وقد تبين ذلك من خلال القرى الطينيَّة، أو الطرق النيسميَّة التي تتخلل تلك الفضاءات، أو الأزياء، والزوارق، وأدوات الحراثة والفلاحة، والموارد البصريَّة الأُخرى التي تُحيل الى ذلك، بما يعني إثراء النص المرئي والإبقاء على صورة المكان قابعة في الذاكرة الى زمن
أطول.