محمد طهمازي
بين الكلمة والسيَّاف مسافة تضيق حتى تصبح صفراً دموياً.. الإعدام من دون محاكمة في بلاط غرناطة ضمن دولة الأندلس التي أسسها الهاربون بديكتاتورية المشرق الأمويَّة الضبابيَّة بهويتها وتحالفاتها والمسرفة ببذخها وانتهاكاتها إلى شبه الجزيرة الإيبيريَّة بفرشاة الفرنسي المستشرق هنري الكسندر جورج رينولت من العام 1870.
هي لوحة تفتح الباب على مصراعيه للبحث في اتجاهات عدة نبدؤها بخط النظر الذي وضع الرسام مشهديَّة لوحته عنده، بمعنى المستوى الذي سيجلس المتلقي فيه أو يقف، لا فرق، وهو هنا تحت مستوى النظر أي أنّنا عند قدمي السيّاف الزنجي ننظر للرأس المقطوعة المتدحرجة على عتبات الحاكم والجسد الذي سلبت منه الحياة للتو يخمد شيئاً فشيئاً، وهو الآخر لزنجي بسبب الصورة النمطيَّة التي سعى جانب من الرؤية الاستشراقيّة لتوكيدها والقائلة بأن العرب والمسلمين هم زنوج أو بغالبية زنجيّة وهو الأمر الذي اعتمده ويليام شكسبير في مسرحيته عبر شخصية عطيل الذي كان يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية تجسّدت في الغيرة الوهمية المرضية.. إن رينولت يضعنا أمام تعريف المقدّس الذي "يهب الحياة ويسلبها، في آن، والينبوع الذي تتدفّق منه والمصبّ الذي تضيع فيه" كما يقول روجيه كايوا عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا.. السياف هنا هو يد المقدس الجالس على عرش الحكم بعيداً عن الأنظار نظيفاً من تناثر قطرات الدم لكن قريباً جداً من الاستمتاع بالمشهد.. إنّ الحاكم هنا هو المقدس سواء ضم إلى نفسه خصائص السماء أو كتبها أم لا فالسلطة تمنحك القدسية بإرادة البطش والتحكم بمصائر المحكومين والعبث بمستقبلهم وأحلامهم وأرواحهم وأجسادهم وما يتبقى من ملكياتهم.
نذهب إلى من يكون القتيل ولا أقصد هويته ولكن إلى ماهية الظروف الذي وضعته في مصافي القتلى، أهو معارض أم مخالف لقوانين السلطة أو مغضوب عليه من الحاكم أو من المجتمع، سيان، فالثاني أنجب الأول الذي بدوره سيبرز كل سلبيات وأمراض منجبه ويسعى إلى تحويل التقاليد والعادات إلى قوالب وعقد النقص المكبوتة إلى هوس وتعسف وجنون ورغبات وغرائز لا يمكن
التحكم بها.
إن الضحية في كل الأحوال تقع تحت مسمى كبش الفداء وهو أحد نوعين إما كبش الفداء الاجتماعي كما يرى "رينيه جيرار" عندما يجد المجتمع نفسه في مرحلة يشعر فيها بالتهديد أو ببوادر خطر ما يشعر أو يتراءى له انه يضع مصيره على المحك، فيشار إلى شخص واحد بأصابع الاتهام وأنه السبب بهذا القلق والتهديد، كما في قصة يونس في السفينة حينما اعتبروا أن الحوت يهدد مصيرهم وكان لا بد من وجود عاص يقدمونه كأضحية للحوت، فيلاقي حتفه وهم ينجون.
وأما أن يكون كبش الفداء الجنائي فهو من يقحم في قضية لا صلة له بها ليحمل وزر المجرمين الحقيقيين، الذين سيخرجون أبرياء، بينما يدان البريء! والبريء هنا في أحيان كثيرة ليس الذي لم يرتكب ذنبا بل الذي اضطرته الظروف التي خلقتها جرائم وخطايا السلطة ولصوصها ومافيات الجريمة لأن يكون في موضع الجناية فاعتبر مجرما وهو في حقيقة الأمر ضحية.
أعود للسياف ولتلك النظرة الباردة
وهو يمسح الدماء عن السيف بردائه الذي كما يبدو يمتلك القابلية على امتصاص دماء الضحايا بكل ترحيب ولم لا يكون كذلك وهو قد أدمن مذاق الدم الطازج المتدفق من شرايين الأعناق، وهو إدمان بالنيابة، إدمان الإمعات. خلف السياف ترى الزخارف الملونة كتعبير عن الترف والملذات التي تغرق فيها السلطة
والسلطان.
لا يفوتنا التطرّق إلى النقطة المحوريَّة، لربما، هي فكرة قطع الرؤوس والتي ترجع إلى الماضي الطوطمي في مجاهل الكينونة البشريَّة وغرائزها المبهمة التي تبحث عن أي فرصة للتعبير عن نفسها.
إنَّ قطع الرأس هو تعبيرٌ عن سلب الروح لزيادة زخم روح القاتل وسلب إرادة المقتول لتعزيز إرادة القاتل وسلب قوة المقتول لزيادة قوة القاتل وامتصاص حياة المقتول لتغني حياة القاتل ونهب عمر المقتول ليمتد عمر القاتل، ثم متعة النظر في عيني الرأس المقطوعة الذي ما يزال صاحبها يمتلك القدرة العقلية على تحليل الصور ويود لو تمتد هذه المقدرة دهرا لكي يستمر ذلك الحوار السري بينهما
ولا ينقطع.
هنا تحضرني صورة الحاكم وهو يشرب الخمر أمام مشهد القتل أو رأس الضحية..
إنَّ مزاج الخمر يلح عليه في هكذا لحظات ليس لأنّها تضفي على نشوته نشوة لكنّها أيضا تشكل المادة الكحوليَّة الحافظة التي تبقى رؤوس القتلى نضرة في دوارق خزانته التي يفتحها حينما يضيق صدره ليشبع ناظريه تأملا فيذهب ضيقه
وتعود له بهجته وإقباله على الحياة ورغبته في مزيد من القتل ليرفد هذه المكتبة الاستثنائية بالذخائر
المعرفيّة.