كيف تبدو الرواية القصيرة جدّاً؟

ثقافة 2024/08/11
...

  عبدالله الميّالي

الرواية القصيرة جداً كما أراها بحسب ذائقتي الأدبيّة واشتغالاتي النقديّة، هي رواية الإيقاع السريع والإيجاز والاختصار للحدث والزمان والمكان والشخصيات مقارنة بالرواية التقليدية التي تتسع للكثير من التفاصيل والجزئيات والإسهاب، وهي تشبه إلى حدٍ كبير ثنائيّة القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، فما دام الوسط الأدبي قد تقبّل وجود القصة
القصيرة جداً باعتبارها تقوم على فلسفة التكثيف والإيجاز مقارنة بالقصة القصيرة، فلا ضير بقبول الرواية القصيرة جداً، وفق قاعدة العلّة والمعلول "حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد"، فما يصدق على القصة القصيرة جداً وفلسفتها، يصدق على الرواية القصيرة جداً وفلسفتها
أيضاً.
ولا شك أنَّ الدافع الرئيس لدى مؤلف الرواية القصيرة جداً "أيَّاً كان"، هو إيقاعات ومتطلبات العصر المتسارعة ومواكبته، حيث يرى المؤلف أو المتبنّي لهذا الشكل الأدبي أن القارئ لا يجد الوقت الكافي الذي يسمح له بتصفح رواية من مئات الصفحات كما كان سابقاً قبل عقود عدة. بالإضافة إلى ما هو حاصل من تغيرات سياسية واجتماعية متسارعة تلقي بظلالها شئنا أم أبينا على المنتج الأدبي كمّاً وكيفاً ونوعاً وشكلاً
وأسلوباً.
ويمكن تعريف "الرواية القصيرة جداً" بأنّها: ذلك النص السردي الذي يتوسط القصة القصيرة والرواية القصيرة، فهي ذات إيجاز واقتصاد في التفاصيل قد تقترب من أجواء القصة القصيرة من دون أن تذوب فيها من جهة، وذات منحى روائي معروف يتمثل بتعدد الشخصيات وحرية الحركة زمانياً ومكانياً من خلال انتمائها إلى جنس الرواية من جهة
أخرى.
فهي المنطقة الوسطى بين القصة القصيرة والرواية القصيرة. هذا هو التعريف الموجز لها من وجهة نظري من دون استدعاء مصطلحات تنظيريّة متعددة وغائمة وضبابيَّة قد تؤثر سلباً في هذا الشكل الأدبي الجديد.
ويبقى للقارئ والمتلقي في الوسط الأدبي كلمة الفصل في هذا الوافد الجديد "الرواية القصيرة جداً"، فإن وجد فيها ذائقته وأنها تلبي طموحه فبها ونعمت، وإن وجد أنها تشكل عبئاً على الأدب وأجناسه بزيادة مولود جديد يجرف من حصة الأشكال السرديّة الأخرى فلن يضر الأدب شيئاً.
ولتكن كتابته محاولة تجريبيّة كما سبقها من محاولات تجريبيّة كثيرة للأنواع والأشكال والأجناس الأدبيّة المتعددة، فمن رحم التجارب يولد الإبداع.. وللأمانة فإني أرى في الأفق نجاح هذا المشروع ليشكّل لوناً أدبيّاً قائماً بذاته، وتجربة سرديّة جديدة سيكتب لها النجاح على المنظور القريب والبعيد، خصوصاً إذا تمَّ تناوله مع الوقت نقداً وتنظيراً وكتابة عراقياً وعربياً وحتى
عالمياً.
فالجنس أو النوع أو الشكل الأدبي كما هو معروف في الوسط الأدبي، يمر غالباً بمخاضات وإرهاصات متعددة تستغرق عدة سنوات وربما عدة عقود قبل أن يأخذ شكله أو أسلوبه الذي يتوافق مع ذائقيّة الوسط
الأدبي.
ولنا في تجارب الشعر الحر وقصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والقصيدة القصيرة جداً والومضة والفيلم القصير جداً "من خمس دقائق" خير دليل، فهذه الأشكال والفنون لم تقر بين ليلة وضحاها، وإنّما مرت بمخاضات وسجالات مختلفة أسفرت بالنتيجة عن ولادة تلك الأشكال الأدبيّة. فالتغيير والتجديد والابتكار في الأدب هي مجالات لا بدَّ منها عاجلاً أم آجلاً ولكن بشرطها
وشروطها.
وإذا كان هذا العنوان "رواية قصيرة جداً" قد يبدو جديداً، ولم يتم تداوله في السنوات السابقة، فإن شكله ولونه ليس بجديد، فبالعودة للأرشيف الأدبي العربي نجد وجود أكثر من نص سردي مكثف على شكل "رواية قصيرة جداً" وإن كان الكاتب لم يضعه تحت هذا العنوان، ومن ذلك نص "الطائر" الذي نشره القاص والروائي العراقي عبد الرزاق المطلبي في مجلة الأقلام بعددها الأول لعام 1983 تحت عنوان (رواية قصيرة)، ولكن يمكن أن نعده "رواية قصيرة جداً" لأنه أخذ مساحة 12 صفحة فقط من المجلة. وكذلك نص "قهوة.. وأحاديث" للقاص والروائي المصري عبد الحكيم قاسم الذي نشره في مجلة القاهرة بعددها 96 في عام 1989 تحت عنوان "رواية قصيرة" أيضاً، ولكنه أخذ مساحة 8 صفحات فقط من
المجلة.
كما أن رواية "جلال خالد" للروائي محمود أحمد السيد التي صدرت في عام 1928 لها ملامح الرواية القصيرة جداً حيث احتلت مساحة 22 صفحة من مجلة الأقلام في أحد أعداد عام 1977، فضلاً عن محدوديَّة الأحداث
فيها.
الذي أتمناهُ أن لا يتم التعامل مع هذه التجربة الأدبيَّة الجديدة بالاستخفاف والتنمّر، وأن نتعظ من التجارب السابقة. أعرف أحد الأدباء في العراق وهو من الأسماء اللامعة في القصة القصيرة شن هجوماً عنيفاً على القصة القصيرة جداً في السبعينيات ولكنه عاد وكتبها في الثمانينيات بعد أن وجد الوسط الأدبي القصصي قد تناولها بشكل واسع.
كما أدعو في الوقت نفسه من له هوى مع هذا الشكل السردي الجديد ألا يسقط في فخ التقليد المستهلك أو يسجن نفسه في اجترار نمط تقليدي متكرر ممل، بل عليه أن يجتهد ويبدع في صياغة نصوص مبتكرة تمتلك أفكاراً جديدة ليكسب احترام القارئ والناقد على حدٍ
سواء.