غيثاء صقر.. الرسم انتصاراً لإرادة الحياة

ثقافة 2024/08/12
...

 خضير الزيدي 


يفتح السفر لدمشق الكثير من المفاجآت التي تصيبني بين رحلة وأخرى، وكانت الدهشة الكبيرة بأن أقف على منجز الكثير من الفنانين والفنانات اللواتي يصارعن الحرب والتشرد وسوء الحال، وينشدن للحرية عبر لوحاتهن والتمست الإصرار الأكبر أن الفن عندهن مكمل لوجودهن، وقد تفاجأت بما رأيته من أعمال مذهلة لجيل من الشباب، الذين يقدمون لوحات تعبيرية غاية في الالتزام بمعايير الدرس الأكاديمي، علما أنهم لم يتعلموا دروس الفن، إلا بقدرة خيالهم، فكيف يوظف الفنانون السوريون ما يحيطهم من متغيرات في الحياة والرعاية أو التشرد والغياب؟

غيثاء علي صقر "أو غيداء كما ينادونها" اسم فني يتسابق مع الزمن، فلم يمنعها الشّلل الدماغي عن التواصل مع الفن، غيداء  عملت بجد فسخّرت عوالم  التكنولوجيا في السنوات العشر الأخيرة، لتكون فنانة تعبيرية ترسم بالألوان وتنوّعها بمهارة بالغة ضمن العمل الواحد كأمهر الملونين، باستخدام أنفها - فلا نعرف كيف تستطيع مشاهدة ما ترسم والسيطرة على الشّكل، فالأمر ليس سهلاً- بعد أن كانت ترسم في البداية بقلم الرصاص باستخدام أصابع قدمها، وتقوم غيداء بنشر أعمالها الرّقمية، ضمن مجموعتها الخاصة على "الفيسبوك" باسم "ذوي الهمم الرسامة غيداء صقر"، ويتم التواصل معها من خلال المجموعة، وقد أسس أخوها المسرحي والقاص علي صقر هذه المجموعة، لتحفظ أرشيف أعمالها وتتيحها للمهتمين والمقتنين.

من أهم مواضيع لوحاتها العائلة، فرسمت والدها بأكثر من لوحة بسيجارته التي تشتعل أمامه، كما رسمت والدتها كثيراً خاصةً بعد أن خطفها الموت منها، إذن غيداء ترسم من تحب حاضراً بواقعها أو غائباً تستحضره بفنها، تتشابه أعمالها مع عدد من الفنانين الذين يتمسكون بالفطرية، والذين ينحون نحو الاختزال فقد تتقاطع اختزالاتهم مع تجريدات غيداء العفوية التي تعتبر قليلة مقارنةً برسومها التعبيرية.

 كل هذا الاصرار والقدرة على انتاج فن يليق بسوريا جعلها تتسابق ممن لم يعيشوا حالة العاهات الجسدية، فكيف نقرأ اصرارها وفنها في ظل مشهد يعج بعشرات اللوحات التي تنطوي على  اشارات وحس عاطفي؟ 

لنكن واضحين وأكثر دقة في ادراج القراءة النقدية والتقييم لمنتج الفن اليوم، فالمعروف أن الغالب من الفنانين يعملون على انتاج عشرات الأعمال التي تحمل طابعا واحدا، وأحيانا مملا جراء التشابه والاستنساخ. لكن مع صقر يبدو حالتها أكثر اهتماما ليس لجانب العوق الجسدي، ولكن لأن أعمالها التعبيرية تتخذ صيغة انتقالة من جانب التعبير إلى الحسي، وعبر مساحات لونية تتداخل فيها تعدد الخطوط والتماسك الشكلي الموحد، بما يجعل رسوماتها ذات قدرة تعبيرية صادقة كأنها تتخذ لنفسها مساحة معروفة بين الفنانين الآخرين. وهذه القدرة بمثابة دعوة ومحاولة لبث الروح الحية داخل الإنسان، إن ما تعمل عليه من اشتغال فني يضعها أمام طابع المرأة القوية التي تنشد لإحساس بصري يقابله المتلقي بعفوية وصدق فلوحاتها ذات الطابع التعبيري لم تكن متخيلة، بل جاءت بوصفها تمثيلا لإنسانية الانسان وبراءة الأطفال. وقد أوجدت علاقة مختلفة بين الفن ورؤية الواقع، عبر إنتاج ملامح الوجه والجسد واتجاه العين لتضمن لنا مماثلة واستلهام يدفعنا إلى مزيد من الشعور اتجاه لوحاتها أنها تصر على توفير مرجع واقعي وليس تأويلا، كي نفهم رسالة العمل الفني من النظرة الأولى له، وهذا المسعى يضعنا أمام فنانة مقتدرة تفهم ما يفرض حسيا وشعوريا عبر مكانة الرسم، أنها تعتمد على تشخيصة من نوع يعج بالحيوية والصياغة التعبيرية، وقد تحقق لها تأسيس علاقة بين الكثير من التصورات، التي تنجح فيها لتكون مرجعا جماليا. 

وأعتقد أن صدق المشاعر والبراءة في امكانية توفير هذه اللوحات هي السبب مع أننا رأينا لك أعمالا تجريدية ذات خصائص مهمة لكن في تعبيرياتها هناك شروع لحساسية جمالية تفصل بين واقع الإنسان والتعبير عن خلجاته وفكرة بقائه حيا على كوكب الارض. 

غيثاء صقر تتخذ من الرسم طريقاً لانتصار ارادتها وتبدو على مستوى متقدم من الاحتفاظ بهويتها الفنية، لهذا لا استغرب أن أجد تكوينات تحمل نسقاً تصويرياً ذات مقاربة خاصة تنجح في ابدائها, وأعتقد أنها تكمن بين واقعها الخاص وتصورها الذهني، وما تكونه المخيلة من بلوغ جمالي وبعد تعبيري. إذن نحن أمام حضور فني يحدد لنا انتقالة صقر عبر التفكير بأهمية الفن أولا، وما تنطوي عليه غاياته وقدرته من تركيز في الممارسة، ناهيك عن الدافع والممارسة التي تدعونا للتفاؤل واستلهام الجوانب الحسية والتعبيرية. ليس لليأس مكان في حياة غيداء، وتصر أن تكون منتجة للفن، وتأمل بأن تتمكن من إعالة نفسها من خلال فنها.. هذا الفن الذي صنع لها عالماً موازياً تعيش فيه تمشي وتركض وتتحرك.