تمثيلات الطفولة في {أبناء البغايا الطيبون}

ثقافة 2024/08/12
...

  حسن السلمان 


غالباً ما تشكّل فترة الطفولة وأحداث الزمن البعيد في حياة الكاتب، مادة ثريَّة في إنشاء نصّه الأدبي لما تحمله تلك الفترة من ذكريات وحكايات ومواقف مؤثرة في تشكيل شخصيته ونموها على الصعيد النفسي والاجتماعي. فعندما يحاصرُ الواقعُ بظروفه الاجتماعيّة والسياسيّة العصيبة الكاتبَ، القاصَ على وجه التحديد هنا، بعد أن يبلغ مرحلة متقدمة من عمره، وتضغط عليه همومه اليوميّة، ويهمين عليه الشعور بالاغتراب وعدم الانسجام مع محيطه الخارجي، ويتحول إلى كيانٍ من القلق والاضطراب،  يلجأ إلى خزين الذاكرة وينتقي منها ما يجعله قادراً على مواصلة الحياة مرغماً عبر التمثيل السردي كنوعٍ من التعويض لما يفتقده في وقته الراهن من حماية وطمأنينة وقدرة على تحقيق ذاته وجوديّاً، وفي الوقت نفسه كشحنةٍ معنويّةٍ لمقاومة إكراهات الآخر الذي يحد من حريته وخياراته بفرض الإملاءات والشروط التي لا تتلاءم مع طبائعه وميوله وأحلامه. ففي مجموعة "أبناء البغايا الطيبون" للقاص أنمار رحمة الله، تطالعنا الكثير من القصص التي تعود بنا إلى أيام الطفولة والمراحل المبكرة من العمر، التي أسند فيها القاص أدوار البطولة إلى الأطفال والأولاد، وضمّنها بما يجعل جوها العام منسجماً مع أجواء تلك الفترة الطفوليّة بعناوين وشخصيات كشخصيات أفلام الرسوم المتحرّكة الشهيرة كـ "ساسوكي، ودامبي، ودايسكي" وغيرها مما علق في الذاكرة، ضمن مخيال وطبيعة طفوليين. عطفاً على ما تقدم، سنعرض إلى بعض النماذج القصصيَّة للتطبيق والبرهنة. ففي قصة "جولات" يعرض لنا بطل القصة السارد التلميذ الصغير، معاناته من تصرفات تلميذ وقح عدائي فيقرر مواجهته بعد تعرّضه للعنف من قبل التلميذ "الشقي" بتعلّمه للفنون القتالية، لكن ذلك لم ينفع، حيث يفشل في أول اختبار للمواجهة ويفهم بأنّ المهارات القتالية إن لم تكن مدعومة بالروح العدائيّة والجسارة تصبح غير مجدية، وأن النزلات الرسميّة التي خاضها ونجح فيها مشروطة بقوانين، لكن معارك الشوارع بلا قوانين، لنفهم عبر مفارقة صارخة بأن الغلبة لمن يخرج عن القوانين والهزيمة لمن يتقيّد بها في ظل عالمٍ لا أخلاقي اختلطت فيه المعايير وخضعت معظم الأشياء إلى أحكامه الجائرة. في قصة "صوت أبي" يستمد بطل القصة السارد الصغير الذي يشعر بالضآلة والضعف والهوان، القوة من صوت أبيه وشخصيته المهيوبة الجانب في مواجهة شرور العالم الخارجي، ويتملكه الخوف من رحيل أبيه عن الدنيا وفقدان تلك الخيمة الصوتيّة التي تشعره بالأمان وتمدّه بأسباب القوة، لكن مخاوفه تتبدّد حينما يترك له أبوه بعد أن فارق الحياة قرصاً ليزرياً يحمل صوته ووصاياه إلى درجة انه كان يشعر بأن ما يصدر من حنجرته ليس صوته وانما صوت أبيه الذي كان يتردد في الأرجاء على الرغم من مفارقة صاحبه الحياة. في قصة "أبناء البغايا الطيبون" التي تحمل عنوان المجموعة، تتجلى براءة وطهارة الطفولة في أجمل صورها الإنسانيّة عندما يتمرّد بطل القصة الصبي على منعه، من قبل ذويه من مصاحبة صبي العائلة السيئة الطيب وما يسببه أولادها، أخوة الصبي الطيب من شغب وأذى للآخرين، والذي لا ذنب له سوى انتسابه لتلك العائلة، ومضيه في وفائه لصديقه الذي مات في ظروف غامضة بزيارة قبره في مقبرة تضم رفات الموتى الغرباء. في قصة "لعنة ساسوكي" يدلي شخص قام بالاعتداء على شخص آخر بأقواله أمام المحقق عبر سرده لحكاية تتلخص بتقمّص السارد الصغير دور "ساسوكي" الذي يمثل القوة الخلّاقة الخيّرة لمواجهة قوى الشر ممثلة بـ "هانزو" عبر مسرحية خشبتها ساحة المحلة وأبطالها أهالي المحلة وأطفالها، لكن عندما حانت لحظة المواجهة فشل البطل في هزيمة الشر ممثلة بصبي شرس شرير أسند له السارد دور "هانزو" وأصبح مثالاً للسخرية التي لازمته حتى تقدمه في العمر، ليثأر لنفسه أخيراً بنطح غريمه وإدخاله إلى المستشفى. على هذا المنوال، منوال صراع الخير والشر، والقوة والضعف، والإنسانيّة والتوحّش، تنسج أغلب قصص المجموعة التي تهيمن عليها أحداث الطفولة وتمثيلاتها السرديّة.