باسم سليمان
لقد أعاد فيلم (The Zone of Interest/ منطقة الاهتمام) لعام 2023إخراج وسيناريو جوناثان غليزر للأذهان، أطروحة الفيلسوفة اليهودية حنة آرنت عن (تفاهة الشّر) بعدما حضرت عام 1961 محاكمة أدولف أيخمان أحد المسؤولين عن الهولوكوست بقولها: إنه كان موظفا عاديا طامحا للتقدم في السلم الوظيفي، ولم يكن منحرفا ولا ساديا، فليس لديه شرّ جذري يسبّب جرائمه، إلا أنها أكدت إجرامه. يقارب غليزر مفهوم تفاهة الشّرّ عبر ضابط آخر يدعى أدولف هوس المسؤول عن معسكر أوشفيتز وهذه المرة من خارج إطار حيثيات أوشفيتز الداخلية، حيث يسرد الحياة الطبيعية لأدولف هوس (كريستيان فريدل) وزوجته هديويغ هوس (ساندرا هولر)
وأولادهما.
حيث يسكنان بيتًا جميلًا عملا بجد حتى حوّلاه إلى جنّتهما الخاصة. لكن هذا البيت الحلم لا يفصله عن المعسكر إلاّ حائط، مسيّج، لا يحجب أبدًا مداخن أفران حرق الجثث في خلفية المشاهد.
يصوّر غليزر حياة الأسرة اليومية وطموح هوس بتحقيق أكثر كفاءة ممكنة للمعسكر وأفرانه بحيث يكون قادرًا على هضم المعتقلين الجدد من اليهود وغيرهم من الشعوب.
تمضي حياة الأسرة بسلاسة لولا بعض المنغّصات ذات المعنى، حيث الابنة الصغرى لهوس تعاني من بعض الكوابيس، فيقرأ لها قبل النوم حكاية (هانسل وغريتل/ بيت الحلوى) وكيف استطاعت غريتل حرق الساحرة في الفرن وإنقاذ أخيها، ومنغصات أخرى كضرورة انتقال هوس إلى مكان آخر، بعيدًا عن بيته، من أجل مراقبة حسن سير المعسكرات النازية في أنحاء ألمانيا، بعدما أثبت جدارة كبيرة في أوشفيتز، بينما تصرّ زوجته على البقاء في البيت وعدم مرافقته، وإن تطلب منه أن يستخدم وساطاته من أجل إبقاء الأسرة في البيت الجميل، فيتحقّق لها
ذلك.
لا يقدّم غليزر في فيلمه أي صور من داخل معسكر أوشفيتز، فقط بعض الأصوات كصراخ المعتقلين أو أوامر إطلاق النار والتي لن تنغّص حياة الأسرة، فما يحدث خلف الجدار لا يعنيهم في شيء، مع أن الكوابيس التي تعاني منها الفتاة، ناتجة عن إدراك الفتاة الصغيرة لما يحدث في المعسكر، فكوابيسها تظهر كمشاهد حلمية لفتاة صغيرة تضع التفاح في طريق المعتقلين كطعام لهم. هذه الإشارات البسيطة الآتية من أوشفيتز لم تغيّر مسار الحياة الطبيعية للأسرة، فهوس يقوم بواجباته الأسرية بمثالية، وزوجته تفعل الشيء نفسه نحو الأسرة، والأطفال يدرسون باجتهاد ويلعبون، فلو حذفنا أصوات تعذيب المعتقلين التي تتسلّل من المعسكر وبعض المشاهد عن طبيعة عمل هوس العسكري، لتحصّلنا على صورة أسرية
طبيعية جدًا.
لقد عورضت أفكار آرنت حول تفاهة الشّرّ، من العديد من الفلاسفة والمفكرين، فلا يعقل أن يكون هذا القدر الهائل من الإجرام الذي قام به أيخمان ناتجًا عن جهل وعدم الإحساس بالآخر والسعي وراء تسنّم المناصب، فهل كانت آرنت عبر التنظير لتفاهة الشّرّ؛ أي سخافة أسبابه، تحاول أن تنقذ الإنسان من فكرة أن الشّرّ متجذّر فيه، مع أنها في كتابها (أسس التوتاليتارية) عدت شرّ النازية مطلقًا أي إنه متجذر فيها، على المنوال نفسه يقدّم غليزر هوس، فهو أب رائع لا يضاهى، لكنّه في المقلب الآخر، مهندس الموت الأعظم في أوشفيتز، ولا يتورّع عن قضاء وطره مع فتاة يهودية، ما يريد غليزر قوله، أننا نحيل دومًا الأعمال الشريرة إلى فساد جوهري في الإنسان، مع أن الشر كثيرًا ما يتلبّس عقائد دينية وأخلاقية وسياسية لها قبول مجتمعي واسع، لذلك كثيرًا ما تقابل هذه الجرائم بلا مبالاة وعدم الاكتراث، فمبرّراتها موجودة في عقائدنا الدينية والسياسية والأخلاقية.. ينتهي الفيلم، بينما هوس ينظر إلى محيط عمله، فتنتقل الكاميرا إلى المستقبل إلى متحف أوشفيتز، الذي حوى ما تبقى من أشياء تخصّ الذين ماتوا في الأفران التي جهد هوس على أن تعمل بأكبر
طاقة لها.
عرض الفيلم قبل أحداث غزة، وعندما تسلّم غليزر أحد الجوائز الكثيرة التي نالها الفيلم، تكلّم عن الصمت اللاأخلاقي والسياسي والمجتمعي تجاه ما يحدث في غزّة من إبادة من قبل الصهاينة بالقول: "ليس من أجل القول، انظروا إلى ما فعلوه في ذلك الوقت، بل انظروا إلى ما نفعله اليوم" ومقصده أن جيش الاحتلال لا يختلف عن النازيين بشيء. إن يهودية جوناثان غليزر لم تمنعه من اتخاذ الموقف الصائب حتى أطلق عليه الصهاينة التهمة الجاهزة التي دائمًا ما يلصقونها بمن يعارضهم من بني جلدتهم بأنّه: "اليهودي الكاره نفسه".
إنّ مفهوم (تفاهة الشّرّ) لدى آرنت يكمن في أنه لا يحتاج إلى شرّ متأصل في النفس البشرية، بل كثيرًا ما يجد في العقائد والأخلاق والقناعات أرضه الخصبة، فهو يولد في اللحظة التي نتوقف فيها عن السؤال الكانطي: هل ما أقوم به هو خير لكل الناس، أم لجزء منهم فقط؟ وهذا ما طرحه جوناثان غليزر في فيلمه وكأنّه أبو يزيد البسطامي قائلًا: "إنّ في الطاعات من الآفات ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي".