التجريب في المسرح الحُسيني

ثقافة 2024/08/13
...

  أ.د. عامر صباح المرزوك    

قُدمتْ مسرحية (وإن) تأليف وإخراج الفنان عباس القصاب ومن إنتاج معهد الفنون الجميلة في النجف الأشرف ضمن عروض مهرجان الطف المسرحي الرابع الذي أقيمَ مؤخرًا في مدينة النجف الأشرف وبمشاركةٍ عراقيةٍ واسعةٍ، وحصدتْ جائزة أفضل إخراج.
الذي يهمنا كمتخصصينَ في حقلِ المسرحِ بكلِّ فروعهِ، هوَ أنْ يكونَ النتاجُ المسرحي الحسيني يواكبُ التجديد والتحديث الذي يصيبُ المسرح في العالمِ، وأنْ نغادرَ الجوانب التقليدية التي تنقلُ الواقعَ كما هوَ مع الحفاظِ على الوثيقةِ التاريخيةِ، والولوج إلى معالجاتٍ دراميةٍ مغايرةٍ، ترتقي بهذهِ القضيةِ الكبيرةِ في طريقةِ تقديمها إلى المتلقي، وكيفَ لنا أنْ ننفتحَ على الثقافاتِ الأخرى واستقطابها، وجعل هذا المسرح مسرحًا له مواصفاتٌ خاصةٌ، واشتغال متميزٍ، بعدما كانَ يعد من المظاهرِ الشبهِ درامية، لافتقادهِ الكثيرَ من سماتِ الدراما التي حددها (أرسطو) في كتابهِ (فنُ الشعرِ) .
تناول مؤلف النص المسرحي حكاية مسرحية لها علاقة بمجموعة مواقفَ تاريخية ارتبطت بأهلِ البيتِ (عليهم السلام) في أكثرَ من حادثةٍ وزمنٍ مختلفٍ، منطلقًا من كلمة (وإنْ)، هذهِ الكلمة التي تكررتْ في أكثر من موقفٍ في مواجهة آل البيت الأطهار، فبنى المؤلف حكايته بشكل تجريبي على وفقِ ثلاثةِ أزمنةٍ، الأول: زمنُ السلطانِ، والثاني: الركبُ، والثالثُ: وإنْ. ومنْ ثمَّ العودةُ إلى الزمنِ الأولِ.
صاغَ المؤلفُ شخصية الخليفة (معاوية بن يزيد) بطريقةٍ مغايرةٍ جاعلاً إيّاهُ مهزوزًا ومريضًا وغيرَ مستقر، وبالمقابلِ شخصية (قيس بن الأشعثِ) ذاتَ ميولٍ أنثويّةٍ، وتصرفاته غير مدروسةٍ، ليستمرَّ الصراعُ بينهما في إقناعِ الخليفةِ بتولي الحكمِ واستكمالِ مشوارهِ أبيه وجده، وانتهى العرضُ بشكلٍ مفتوحٍ لإعطاءِ دلالةٍ واضحةٍ إلى أنَّ الزمنَ لا يزالُ مستمرًا في تكرارِ الظلمِ والتعسّفِ الذي يمرُّ في المجتمعِ منذ آل البيت الأطهار إلى يومنا هذا.
استهلَ المخرجُ العرض المسرحي برقصاتٍ جسديةٍ وإيقاعيةٍ من خلالِ مجموعةٍ منْ الشبابِ المسرحيِ بقيادةِ الفنانِ زيد حيدر، واستمرَّ الاستهلالُ لمدةِ عشرِ دقائقَ من زمنِ العرضِ، ليقدم من خلالهم الولاءُ والطاعةُ إلى الخليفة، وأنَّ هذه المجموعة (القومُ) مسيَّرينَ لا مخيَّرينَ في تلبيةِ أوامرِ الخليفة، وعلى الرغمِ من طولِ وقتِ المقدمة، إلا أنّها كانتْ مميزةً من خلالِ الأداءِ المسرحي، وتوازن الحركاتِ بشكلٍ مدروسٍ وموزعٍ على خشبةِ المسرحِ بطريقةٍ فنيةٍ رائعةٍ في رسمِ صورٍ معبرةٍ وتشكيلاتِ جسديةٍ منوعةٍ .
تميزَ الأداءُ التمثيلي للفنانين عباس القصاب الذي أدى شخصية (معاوية)، وعلي صاحب شخصية (قيس) بطريقةٍ منضبطةٍ في المنظومةِ الصوتيةِ والجسديةِ والاسترخاءِ، مما جعلَ المتلقي يتواصلُ معهم ويتفاعلُ بشكلٍ كبيرٍ، ويحسبَ لهما إيجادهما للدورِ المسرحيِ المراد، فقدَ كسرا الكلائشيَّة والرتابة في أداءِ هكذا أدوار تاريخية، والولوج في المعاصرةِ وبشكلٍ تجريبيٍ، وخاصةً في الجانبِ النفسيِ من خلالِ الحركاتِ والإشاراتِ التي أعطتْ دلالاتٍ كثيرةً لرسمِ الشخصيةِ وأبعادها. كما فعّلَ المخرجُ المفرداتِ "الديكوريَّة" في أكثر من علامةِ مسرحيةٍ، فالمنبرُ تحولَ إلى (مشفى، باب، هودج، عربة)، والميزُ الذي مثلَ مجموعةً من الذكرياتِ (صور رواديد، مطربين، امرأة عجوز ... إلخْ)، والمذياع الذي مثلَ التاريخ من خلالِ بثِ صوتياتِ مختلفةِ على وفقِ أزمانٍ عديدةٍ إلى استخداماتٍ وتحولاتٍ، والساتر الذي يحتوي على ساعةٍ فيها الزمنُ مقلوبًا قدْ تحولَ إلى مكانٍ متحركٍ يمينًا ويسارًا بطريقةٍ مغايرةٍ، أفادَ منها العرضُ في اشتغالٍ منوعٍ، وهذهِ التحولاتُ في المفرداتِ أعطتْ جمالية للعرضِ واستغلالًا للمكانِ المسرحيِ في تشكيل سينوغرافيا تميزتْ بالمغايرةِ وكسرٍ المألوفِ والجامدِ، وإنما تحركتْ وتغيرتْ معَ تغييرِ الفعلِ الدراميِ .
وظفَ المخرجُ مجموعة من المؤثراتِ الموسيقيةِ والصوتيةِ طيلةِ العرضِ المسرحيِ لتعبّرَ عن الحدثِ المطلوبِ، لكنها وقعتْ بالمباشرةِ في غالبِ الأحيانِ، وهناكَ استخداماتٌ لا علاقة لها بالحدثِ الدراميِ، فكانتْ نشازًا وغيرَ متفاعلةٍ داخلَ بنيةِ العرضِ المسرحيِ، أما مصمم ومنفذ الإضاءةِ فقد اجتهدَ في التنوعِ باستخدامِ البقعِ، وإعطاء دلالاتٍ لونيةٍ تتوافقُ معَ متطلباتِ العرضِ، مما أضافَ للعرضِ عناصرَ جماليةً ورؤيةَ فنيةً توافقتْ معَ بقيةِ مفرداتِ العرضِ.
أباركُ لكادر مسرحية (وإنْ) وهمْ يخوضونَ هذهِ التجربةِ المسرحيةِ المهمةِ، وأتمنى لهم في قابل الأيامِ تجاربَ مسرحيةً جديدةً تضافُ لهم، وعليهم أنْ يأخذوا بالملحوظاتِ المطلوبةِ لنقلِ مواهبهم وأفكارهم الجميلة، فالشبابُ المسرحي هم العمادُ الذي نريدُ وننتظرُ منهم الكثير .