البيوت التراثيَّة صديقة البيئة

منصة 2024/08/13
...

 عماد الطيب

ظلت البيوت التراثيّة العربية والإسلامية عامل جذب للباحثين ومن الذين يبحثون عن الاصالة في التراث. إذ بنيت تلك البيوت على وفق أشكال ومضامين هندسيّة معمارية تتيح السكن المريح منذ قرون خلت، فضلا عن روعة التصميم وجماليّة المظهر. وقد حرص البناؤون في تلك الحقب الزمنية أن يضيفوا جماليّة الهندسة ويمنحوا البيوت العربية هوية متفردة عرفت بها، حتى غدت مصدر اعجاب ونوعا من الفنون الجماليّة.وسجلت الدكتورة صفا لطفي اختصاص جماليات التصميم في الفن والعمارة من جامعة بابل حضورا فاعلا في مجال البحث عن جماليّة العمارة العربية الإسلامية بكتاب عنوانه “البيوت التراثية العربية” بحثت فيه عن اصالة تلك البيوت وجمالياتها وأبعادها البيئية.وقالت لطفي في حوار معها، إن “البيوت التراثيّة العربية تشكل نقطة مهمة في التصاميم المعمارية المدنية التي ظهرت بصورة واسعة في العصور العربية والإسلامية.  

 إذ كانت وليدة العمارة العربية الضاربة في القدم، واستمدت جذورها من العمارة الرافدينية القديمة المبنية على الانفتاح نحو الداخل، فقد أكدت عمارة هذه المنطقة نقطة جوهرية وهي مبدأ الانفتاح نحو المبنى، معتمدة في نظامها التصميمي على فناء داخلي يصطلح عليه باللهجة العراقيّة بـ (الحوش)، تدور حوله الغرف والعناصر المعمارية الأخرى، وهو أسلوب رافديني قديم أكد مبدأين: الأول هو الخصوصية لساكني البيت، والثاني هو نوع من التكيف البيئي كحل لمشكلة حرارة المكان، ثم ضمن المعماري العربي البيت التراثيّ، مفردة معمارية مهمة وهي ما يصطلح عليها بـ (الشناشيل) التي تعتمد على خامة الخشب في انجازها، إذ تصمم على صورة شبكة خشبية ذات مقطع هندسي تفصل بينها مسافات محددة ومنتظمة ضمن نظام هندسي زحرفي مركب، مشيرة إلى أن (الشناشيل) كمفردة معمارية ارتبط استعمالها في منطقة الشرق الأوسط، ومنها أرض الرافدين بالظروف المناخيّة القاسية، إذ تقدم هذه المفردة المعمارية معالجات بيئية تعمل على التحكم في درجات الحرارة الداخلية وتحسين مستوى الرطوبة، كما أنها تسمح لضوء النهار بالدخول إلى الفضاء الداخلي دون السماح لأشعة الشمس المباشرة بالدخول، ثم أن هذه المفردة بالإضافة إلى جماليتها وخصوصيتها العربية، فهي تمنح ساكنيها فسحة من الخصوصية والراحة، فضلا عن أنها وحسب رأيي الشخصي تعد أحد جذور كاميرا المراقبة، إذ يستطيع ساكن البيت من خلالها القدرة على مراقبة العالم الخارجي ورؤيته”.وهنا لابد لنا من التأكيد على أن هذا التصميم المعماري الأصيل بحسب الدكتورة يبقى أحد أهم الحلول المعمارية الناجحة لمعالجة مناخيّة ذكية وذات جذور تاريخيّة تحمل قيما فنيّة وجماليّة ووظيفيّة.

*يبدو أن البنائين لم يغفلوا عن اضفاء مسحة الجمال في البيوت، ما رأيك؟
-البيوت التّراثية العربية بما تحويه من مفردات معمارية ومفردات ملحقة بها “كالزخارف والمفردات الخشبية من شناشيل ودرابزين وغيرها» تعد إلى جانب كونها تكوينات معماريّة ذات قيمة وظيفية متميزة عملاً فنياً يتضمن زخارف وتفاصيل تتطلب من صانعها مهارة يدويّة وقدرات إبداعية مبتكرة. فقد استمرت الأساليب الفنية والتصميمية العربية والإسلامية وتوظفت بأجمل صورة في تصاميم البيوت التّراثية العربية، ومنها توظيف التصاميم الزخرفية ذات الأشكال الهندسية،  فضلا عن أسلوب التعشيق والرسم على الزجاج وغيرها من الفنون المرتبطة بالعمارة، وكانت براعة المعماري العربي واضحة حتى في التفاصيل الدقيقة، فقد كان دقيقا في اختياره لأقطار القضبان الخشبية والمسافات بين أبعاد الشبكة مصمما إياها بصورة هندسية دقيقة بما يتواءم واحتياجات الخصوصية للمبنى وزوايا سقوط الشمس صيفاً وشتاءَ بما يحقق الكفاءة الوظيفية.ولقد حظي النظام الزخرفي الهندسي بإعجاب الناس في الدول العربية والإسلامية،  فكان نتيجة ذلك ظهور أنساق زخرفية تخضع لأنماط غير بسيطة ومتطورة من التشكيلات الهندسية، وهذا ما ضمَن المفردات المعمارية ومنها الشناشيل إلى جانب قيمتها الجمالية أهمية رمزية.

*ما مدى تأثير البناء للحفاظ على بيئة البيوت من الظروف الجوية المتطرفة؟
 - تميزت المنطقة العربية في العديد من أقسامها بظروف مناخية صعبة، فتظهر  درجات الحرارة المرتفعة وأشعة الشمس الحارقة، والرطوبة المنخفضة، الأمر الذي دفع بالمعماريين في هذه المناطق إلى ابتكار مفردات وعناصر معمارية كحلول لمعالجة هذه الظروف البيئية والمناخية التي تختص بها هذه المنطقة، ومنها التصميم الذي اعتمده البيت التراثي العربي، وما رافقه من مفردات وخامات كان من بينها الشناشيل، التي هي عبارة عن مساحة بارزة ذات فتحة شبكية، استخدمت سابقاً لوضع جرة ماء لتبريدها من خلال عملية التبخير والناتجة عن حركة الهواء عبر فتحاتها وهذه الفتحات تتمثل بصورة جلية في درابزينات (ستائر) خشبيّة ذات مقطع دائري تفصل فيما بينها مسافات صغيرة مرتبة ومنتظمة ضمن نمط هندسي وزخرفي. والشناشيل هي العنصر المعماري الذي غطى النوافذ في الأجزاء العلوية من المبنى العربي التراثي، وهي بروز خشبي مكون من وحدات صغيرة ومجمعة من القطع الخشبية الأسطوانية المتسلسلة ذات المقطع الدائري تفصل بينها مسافات محددة ومنتظمة مصممة بطراز هندسي زحرفي يستقي أساليبه من الزخرفة العربية والإسلامية.

*ما هي القيم الوظيفية لتصميم البيت التّراثي العربي؟
- يمتلك البيت التّراثي العربي قيما وظيفية متعددة سواء على الصعيد البيئي أو الاجتماعي إذ يساعد التصميم المعماري هذا على ضبط تدفق الهواء إلى الداخل و خفض درجة الحرارة، التحكم بمرور الضوء، تعزيز نسبة الرطوبة وعلى الصعيد الاجتماعي، فإنه يحاكي قيم ومبادئ المنطقة العربية فهو يساعد على توفير الخصوصية لساكني البيت، وتظهر ابعاد هذا البيت الوظيفية بعدة محاور،  فمن باب التحكم في درجات الحرارة: يمكن توضيح ذلك كما يأتي: ترتفع درجة حرارة الفضاءات الداخلية نتيجة عملية الاستقبال الحراري من أشعة الشمس، وللتحكم بدرجات الحرارة ينبغي التحكم بزوايا سقوط الشمس على الغلاف الخارجي وما فيه من نوافذ وفتحات، ويأتي هنا دور الشناشيل فمن خلال أجزائها يتم العمل على منع أشعة الشمس المباشرة من الدخول، لاسيما في فصل الصيف عندما تكون زوايا أشعة الشمس مرتفعة، بل وتكتفي بالوهج المنعكس الأقل كثافة وبالتالي تقليل الاستقبال الحراري.
ومن جهة أخرى، فإنه هذه الفضاءات الصغيرة تسمح لتيار الهواء بالدخول إلى الغرف وبالتالي مساعدة ساكني المكان من تقليل درجة الحرارة علاوة على ذلك، تساعد عملية تبخير مياه الشرب التي توضع في الآنية (الجرار) في فقدان الهواء لبعض من حرارته وبالتالي دخول نسائم الهواء إلى الداخل، وفي الشتاء وعندما تكون زوايا سقوط الشمس منخفضة فإن فتحات الشناشيل تسمح لأشعة الشمس الدافئة بالدخول مما يمنح ساكن هذه البيوت شيئا من بالدفء. أما التحكم في ضوء النهار: فتساعد الشناشيل على دخول ضوء النهار إلى داخل الفضاء الداخلي، دون السماح لأشعة الشمس المباشرة بالدخول، وبالتالي التقليل من الحرارة العالية.  في حين أنها تضبط تدفق الهواء: إذ تكفل الشناشيل ضمان دوران الهواء داخل البيت، إذ يتم سحب الهواء إلى الغرفة من خلال الفتحات الصغيرة للشناشيل في الجزء السفلي ويتم إخراج الهواء الساخن إلى الخارج من خلال الفتحات الكبيرة في الجزء العلوي، ولا تعمل هذه التقنية على تحسين دوران الهواء فحسب، بل تعمل أيضًا على تسريعه في الغرف الداخلية الأخرى.  ومن الأبعاد الوظيفية للبيوت التراثية وتحديدا شناشيلها، هو المحافظة على الخصوصية: إذ تشكل الخصوصية واحدة من أهم القيم الاجتماعية في المجتمعات العربية والإسلامية، وهنا يساهم التصميم الشبكي الخشبي في حماية الفضاء الداخلي من أعين الغرباء وفي الوقت نفسه تسمح لساكني البيت من رؤية المنطقة المحيطة وبالتالي تلبية حاجة السكان للخصوصية والراحة والمحافظة على حرمة المنازل وسكانها مع اتاحة الفرصة للنساء بالنظر إلى الخارج دون انتهاك لخصوصيتهن.

*هل حققت العمارة العربية الحديثة بعض ما امتازت به العمارة التراثية؟ وهل تميزت بهوية متميزة، تمثلت باستخدام مفردات معماريّة وعناصر متوافقة وطبيعة التقاليد والأعراف والظروف المناخية الموجودة في المنطقة العربية، أم أنها ظلت ضمن دائرة التقليد للأساليب والطرز المعمارية الغربية، ما أدى إلى ضياع الهوية العربية فيها وعدم ملائمتها للمتطلبات البيئية والاجتماعية للمجتمع العربي؟
- إن العودة إلى التصميم العربي التّراثي يشكل إحدى المعالجات المعمارية المعاصرة. من جهة أخرى، تشكل الشناشيل واحدة من أهم المعالجات التي استخدمت للسيطرة على الظروف المناخية القاسية في المنطقة العربية، كعنصر تصميمي قادرة على ضبط درجات الحرارة الداخلية وتحسين رطوبة الهواء، وبالتالي تحسين جودة البيئة الداخلية وتعزيز استدامة المباني وكفاءة استهلاك الطاقة فيها، لذا من المهم العمل على ترسيخ دور هذا العنصر وربطه بالعمارة المعاصرة فضلا عن محاولة العودة للتصميم العربي الأصيل الذي يعتمد على فكرة الفضاءات الداخلية التي تعد فكرة أصيلة في التصميم العربي والابتعاد عن تهجين التصميم المعماري بأساليب وافدة.