مصطفى أحمد
أبعد الأشياء إلينا، قد يكون أقربها، يعيش في داخلنا، لكننا لا نجد الطريق إليه، أو أننا ببساطة، لا نعرف بوجوده.في دراستي الجامعية، بقسم البرمجيات، تعلمت في احدى المحاضرات أن النظام عند إعادة ضبطه format او factory reset، وهو ما يعتقد الناس بأنه كفيل بحذف البيانات، فإنه لا يقوم بحذفها، بل يحذف “عنوانها” في الذاكرة، بمعنى، “نسيانه” لكيفية الوصول لها.
هذه العملية موجودة بأغلب نواحي حياتنا، لكن الاختلاف أن الإنسان لا ينسى كيفية الوصول نحو الأشياء بداخله، بل هو يجهل وجودها في بعض الأحيان، لكن الأمور، أو الجوانب التي يعرفها، يعرف الوصول إليها، لا ينسى طريقها، لا ينساها، لكنه يقوم بتناسيها، ويقنع نفسه بعدم وجودها في داخله.في مقاله (العُميان) يُشير عبد الفتاح كيليطو لقول في مذكرات كافكا “في معظم الأوقات، ما نبحث عنه بعيدًا، يقطن بقربنا”(1).
وقد يكون قول كافكا هذا، مُخيفًا، على الرغم من كونه ليس غريبًا علينا، فكم من مرةٍ كُنا نبحث بجنون، قد يصل لليأس، عن شيء معيّن، وبعدها نكتشف ببلاهة، وجوده أمامنا، لكننا لم نبصره. وقد صادف الكثير ممن يعتادون لبس النظارات الطبية، بحثهم عنها، وهم يلبسونها، ويعود ذلك لكونهم يخافون فقدانها، أو أكمال حياتهم بدونها، وكذلك اعتادوا وجودها مما جعلهم يبحثون بعيدًا، غير منتبهين لوجودها، وأن رؤيتهم الواضحة، بسببها.
انتهيت قبل أيام من رواية “دكتور جيكل ومستر هايد”(2) ومن عنوانها، نرى أن الكاتب اختار حرف العطف “الواو/and” بين الاسمين لأن هذين الشخصين متلازمين. يبدأها بكون جيكل وهايد أصدقاء، لكن هايد قليل الظهور، والذين رأوه ميّزوا فيه تشوّها غريبا يمنعهم من وصفه بدقّة “يعطي انطباعاً قوياً بالتشوه، وإن كنت عاجزاً عن تعيين موضع هذا التشوه. إنه رجل ذو مظهر غير عادي، ولكنني في الواقع لا استطيع أن أصفه بأية طريقة. كلا، سيدي؛ لا أستطيع مساعدتك؛ لا أستطيع أن أصفه. ولا يرجعُ عجزي إلى ضعف ذاكرتي؛ فإني أصارحك إن بمقدوري استحضاره فأراه ماثلاً هذه اللحظة”.
وعند جريان الأحداث، ونهاية الرواية، نكتشف، أن جيكل الطبيب المحبوب، الطيّب، حَسِن السمعة، هو نفسه هايد، بعد أخذ “ترياق” يحضّره هو. وجيكل نفسه، يُفسّر هذا التشوّه بالسيد هايد فيقول في وصية تركها لتُفتح بعد موته أو اختفائه “عندما تلبست لبوس إدوارد هايد، فلم يقدر أحد على الاقتراب مني للوهلة الأولى بدون أن يتولى جسده اضطراب صريح. وهذا بحسب اعتقادي، لأن الكائنات البشرية جمعاء، مثلما نصادفهم، مجبولون من الخير والشر: إدوارد هاید نسيج وحده في سلالات بني البشر، كان الشر الخالص”.اذن، يبدو لنا أن التشوّه في السيد هايد، هو الشر. لكنه على الرغم من هذا، ليس بغريب على جيكل، بل هو جانب واضح منه، مزروعٌ في داخله، يرى اللذة في الشر، ويستغله عند قيامه بالأشياء المروّعة.
نحن البشر، نُخفي، ونخبّئ هذا الجانب، وهذا ما دفع الكاتب روبرت ستيفنسن، لاختيار اسم الشخصية المكوّنة من الشّر الخالص: هايد (المُختبئ/hide).
عندما نرجع لعبد الفتاح كيليطو في مقاله “بورخيس هو الجار”(3) فأنه يفترض على لسان قارئ ما، بأن بورخيس هو جاره ويصل لنتيجة “بما أن بورخيس هو الجار، وبما أنني الجار، إذن أنا بورخيس، أو إذا شئنا، بورخيس هو أنا”.لا يكون الشّر في أي مكان بعيد، ولا يمكن أن يكون قريبًا كذلك، فهو يقطن في داخلنا، يكوّننا ويشكّل جزءًا أساسيًا من الإنسان (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (4).
لن يعيش الإنسان من دون أن يلعب أكثر من دورين متقابلين، متضادّين، وقد يكون دور الضحية في بعض الأحيان، ودور الجاني في الأحيان الأخرى: وكأن حياة كل شخصٍ منا مسرحية لممثل واحد، يُغيّر دوره في كل فترة، كما يُغيّر ثيابه مع تغيّر الفصول.
قد تختلف الفترة من شخصٍ لآخر، يختلف التعاقب بين الفترات، لكن الكل ودون استثناء يمرّون في هذه الفترتين. ما يشترك فيه الكل، أنهم يولدون كضحية، وما أن تقع لهم أول جناية حتى تبدأ السلسلة، وتنتهي، عندما يموتون كضحايا للموت أيضاً.
هذه الدائرة تبقى مُستمرة، وتُعرف بفكرة، أو اسطورة (الأوربوروس/ Ouroboros) بمعنى (الدوران/ circulation) وهي الأفعى التي تضع ذيلها في فمها، دائرة لا نهاية لها، إلا بقطع رأسها، بالموت.
******
(1) كتاب في جو من الندم الفكري – عبد الفتاح كيليطو – دار المتوسط
(2) رواية دكتور جيكل ومستر هايد – روبرت لويس ستيفنسن – ترجمة جولان حاجي – دار المدى.
(3) الهامش الأول: كتاب في جو من الندم الفكري.
(4) سورة الشمس.