هل يمكن أن نخلق قارئنا النموذجي
صفاء ذياب
منذ أن بدأ النقد الأدبي ينتقل من النص إلى القارئ، اختلفت المفاهيم التي طرحها الفلاسفة والنقّاد لشروط القارئ والقراءة في سبيل الخروج بنمط يمكن من خلاله فهم النص من قبل المتلقي لا من قبل المنتج له.
ففي كتابه (القارئ في الحكاية)، ينطلق أُمبرتو إيكو من قاعدة أساسية تتمثل في كون وجود النص يفترض تعاون القارئ ومشاركته كشرط لانتشاله من الجمود إلى الحركة. متحدّثاً عن البياض والمسكوت عنه الذي يتركه النص كهامش لتحرّك القارئ ومساهمته في تنشيط النص. فالنص عند إيكو آلة كسولة تتطلّب من القارئ القيام بعمل مشترك دؤوب لملء البياضات غير المقولة أو الأشياء التي قيلت لكنَّها ظلّت بيضاء.
وفي هذا يخرج إيكو بمصطلح (القارئ النموذجي) الذي يرسم لنفسه فرضية عن المؤلف، ويستطيع أن يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكّر بها المؤلف نفسه، ويستطيع أيضاً أن يتحرّك تأويلياً كما تحرّك المؤلف توليديا.
وعلى الجانب الآخر نجد القارئ عند آيزر مرتبط بمبدأ النص المفتوح، أي أنَّ أيَّ نص مفتوح يقوم على بنية احتمالية لا تنسخ الواقع، وإنَّما تعيد بناءه وفقا لآليات محدّدة. بمعنى أنَّ القارئ ولو أنَّه يبدو ظاهرياً بأنَّه يتمتّع بحرّية مطلقة فـي تأويل نص أدبي من خلال ملئه للفراغات والبياضات، فإنَّ هذه الحرّية، من جهة أخرى، تبقى مشروطة ومقيّدة بمجموعة من النماذج أو المنظورات النصّية، أو كما يسمّيها إيكو (العوالم الممكنة) التي تساهم في ضبط المسار التأويلي عند القارئ بإرشاد من التوجيهات النصّية. حيث يندمج القارئ في “بنيات النص ويعدّل كلَّ لحظة مخزون ذاكرته في ضوء المعطيات الجديدة لكلِّ لحظة من لحظات القراءة، ومن هنا تكون غاية وجهة النظر الجوّالة للقارئ هي بلوغ التأويل المتسق.
في حين ترى كارين ليتاو في كتابها (نظريات القراءة.. الأجساد والكتب والشغف بها) أنَّ علاقة القارئ بالكتاب هي أيضاً علاقة بين جسدين: أحدهما مصنوع من الورق والحبر، والآخر من لحم ودم. وهذا يعني أنَّ الكتاب له جسد واضح حتَّى في استخدام مصطلحات مثل الهوامش والعناوين، وكذلك القارئ، فنحن نميل إلى الاعتقاد بأنَّ القراءة هي فهم ولا يحدث إلَّا في عقولنا. وفي الأوساط الأدبية، على وجه الخصوص، نفكّر في القراءة على أنَّها “تمرين عقلي داعم”.
وتضيف: لقد علّمتنا الأبحاث التي أجراها مؤرّخو القراءة، مثل روجر شارتييه وروبرت وآخرين، الكثير حول من يقرأ ماذا ومتى وأين ولماذا يقرأ الناس. وما تشير إليه هذه البحوث أيضاً هو أنَّ الطريقة التي يقرأ بها الناس، بل وتجربة القراءة نفسها، تعتمد على التقنيات التي تلقّى بها القرّاء الكلمة المكتوبة، أو لنمضي بفكرتنا خطوة أبعد، فنقول بأنَّ تقنيّات الوسائط لم تغيّر علاقتنا بالكتابة والقراءة فحسب، بل غيّرت نظرتنا للعالم، وربَّما قامت بتغيير الإدراك نفسه، كما يرى منظّرو الوسائط الجديدة.
وإذا كانت القارئ يبحث عن نصٍّ يدخله في عوالم جديدة، فما شكل القارئ الذي يتمنّاه الكاتب نفسه. وهنا يمكننا أن نتساءل: إذا كان لك أن تخلق بيديك قارئاً لنتاجك الأدبي فما مميّزات هذا القارئ؟ كيف تريده؟ ما ثقافته؟
مزاج مختلف
يشير الشاعر الدكتور محسن العويسي إلى أنّه لا يمكن لأديب ما أن يكتب لنفسه من دون الالتفات لمن يتلقّى ما يكتب. وبعيداً عن التصنيفات المختلفة، كالاهتمام بعلم جمال التلقّي لياوس، أو القارئ الضمني لآيزر أو القارئ الأنموذجي لإيكو أو غيرهم، فإنَّ الأديب بحاجة ماسّة إلى قارئ حقيقيّ ذي توجّهات مختلفة، وربَّما هذه التوجّهات تتراكم فيها أبعاد ثقافية وأدبية مع خبرات تنبني عليها تلك القراءة، فهو بحاجة إلى نصٍّ يرضي شغفه، ولا يستند ذلك الشغف إلَّا بمسألة أفق التوقّع، وهذا ليس انتصاراً لياوس، بل لمجموعة المعايير التي يستخلص منها جمالياته وأسسه، وكذلك معرفة ما سبق قراءته ليحدّد ويميّز ما بين النصوص من حيث لغتها وموضوعها.
أمَّا كيف أريد القارئ؟ فهذا الأمر ليس بالهيّن أو اليسير، فلكلِّ قارئ مزاجه ورغبته في تتبّع النصوص، لكنَّ القارئ الذي يقرأ النصّ بتلذّذ ويكتشف ما وراء المعنى هو الأقرب لي، فالقراءة الواحدة للنص- ربَّما- لا تفيه حقَّه، فلكلِّ قراءة رحلة جديدة لاستجلاء ما خفي من دلالة أو صورة لا تقف عندها القراءة الأولى.
ويستمر العويسي في حديثه قائلاً: صحيح أنَّ ثقافة القارئ تختلف من شخص لآخر، غير أنَّ وفرتها تمكّن القارئ من الوصول إلى مبتغاه، وكأنَّه شريك رئيس مع منشئ النص، فيجنح بكلِّ يسر إلى التحليل والفهم ولا سيّما في النص الشعري، وهذا ما يريده الأديب الذي يعبّد الطريق ويمهّد السبيل للقارئ المثقف والواعي كي يجمع اللآلئ في سلكها بترتيب ونظام.
ملاءمة العصر
ويقدّم الشاعر عبد العزيز عسير كلام الشاعر العبّاسي أبي تمّام للبدء بحديثه، قائلاً:
قديماً قيل للشاعر العباسي أبي تمام:
- لماذا تقول ما لا يفهم؟
فردَّ على السائل بتساؤل آخر:
- وانت... لماذا لا تفهم؟
موضحاً: هي قضية قديمة إذن... قضية إيصال النص... فهل وصول النص للمتلقي يتوقّف على مدى قدرة الشاعر على خلق النص المناسب؟ أو أنَّ ذلك يتوقّف على قدرات المتلقي نفسه وما يمتلك من ثقافة؟
باعتقادي لا يمكن إلغاء دور كلٍّ من الطرفين... الشاعر والقارئ كليهما.
نحن نعاني اليوم من اتهام نصوص الحداثة بالغموض لما فيها من إحالات معرفية إلى مختلف أنواع المعرفة... ومنها الحدث التاريخي والنص الإبداعي السابق بما في ذلك الأسطورة وما تتضمّنه من الطرافة والدهشة الشعرية.
والتجارب الشعرية السابقة في بدايات شعر الحداثة قد أثبتت أنَّ الشاعر بإمكانه أن يخلق القارئ المتفاعل مع نصوصه، ولعلَّ السيّاب خير مثال للمبدع الذي روّض أذهان جيل جديد من قرّاء الشعر... بعد أن كان التلقّي محصوراً بقيم تراثية لم تعد ملائمة للعصر.
بالنسبة لما كتبت أنا من نصوص... لقد عانيت من شكوى بعض الأصدقاء ممّن كاشفوني بأنَّ نصوصي فيها من الغموض ما يحول دون إيصال النص... وأتطلع إلى القارئ الذي يشاطرني التفاعل مع نصوص وصفت بالغامضة... في حين كنت سعيداً برأي أصدقاء آخرين تفاعلوا مع تلك النصوص.
هيبة القراءة
ويرى الشاعر عبدالرزّاق الربيعي أنَّه إذا كان النص هو الوجه الأوّل لورقة الشجرة، فالقارئ يمثّل الوجه الثاني لها، فإذا غيّبنا أيَّ وجه منهما، فالآخر يناله ما ينال الأول، وبالطبع يقصد هنا القارئ الواعي، المتفاعل مع النص، الذي يتجاذب معه، ويتشابك، وليس القارئ السلبي الذي يجعل من النص سريراً ينام عليه، ويسترخي تحت مظلّته. من هنا يتبوّأ القارئ مكانة عالية، فهو شريك في إنتاج النص، وقد يضيف عليه من ثقافته، ووعيه، ويُسقط عليه من ذاته ووجدانه، فتعلو به شجرة النص، وتورق، وتتدلّى ثمارها، وغالباً ما أضع هذا القارئ أمامي لحظة الكتابة، فهو يشكّل الطرف الثاني من العملية الإبداعية، ولكي يتلقّى الخطاب الشعري أضع له في أماكن واضحة في الطريق مفاتيح هي موجّهات تعينه على قراءة النص، هذه الموجّهات تتمثّل في العنوان، والإهداء والعبارات التمهيدية، المستلّة من أحداث تاريخية ومدوّنات ثقافية، لكي يواصل السير حتَّى يصل جوهر النص، هذا القارئ ليس أيّ قارئ، إنَّه القارئ الذي يقبل على النص متحفّزاً ومتسلّحاً بثقافة ووعي، فأنا لا أريده أن يكون مستقبِلاً، بل مشاركاً في العملية الإبداعية، يعيش عصره، وليس خارجاً عنه، يساهم في صنع أحداثه، وكلَّما كانت مساهمته أكبر، يصبح أكثر قرباً منّي، لأنَّه عنصر حيوي غير خامل.
قارئ كهذا يعدُّ مكسباً لي، لذا أمسك به، وأزيل الألغام والمنعرجات عن طريقه، وكلّ ما يصرف ذهنه عن بلوغ الهدف الرئيس، هذا القارئ هو صديقي الذي يواصل معي الرحلة ويشاركني “وحشة الطريق ويتقاسم معي الزاد، ويعيد معي الهيبة للقراءة.
قارئ محلّي
ويؤكّد الشاعر ناصر الحجاج أنَّه لو كان الأمر بيده لخلق قارئاً محليّاً! قارئ يعرف نفسه، ويدرك ماهيته وهويّته، يعرف، مثلاً، ما الذي يجعل الشعر العراقي شعراً عراقيّاً. ثمّة دائماً روايتان للحادثة، رواية صاحب الحادثة، ورواية الآخر عنها: رواية ضحيّة، ورواية مجرمة، بمعنى أنَّ هناك رواية مهيمنة، ورواية ضحية متهمة، قصّة “مسيطرة” وقصة “مستبعدة” نسخة “السيّد” ونسخة “العبد”، أو نسخة الأب ونسخة الابن.
ويضيف: لطالما اعترف العرب بأنَّ “ مغنّية الحي لا تطرب”، ويقول العراقي لأهله “أنتم تطربون للغريب”، بمعنى أنَّ العولمة Globalization كمظهر بارز من مظاهر الهيمنة الثقافية Cultural Hegemony في مقاييسها القسرية للجمال والأنوثة، والتشريعات السياسية والأخلاقية، والاقتصادية، ومقاييسها في الموضة والثقافة والمصطلح اللغوي والفكري والنقدي لم تتسيّد إلَّا بعد أن غسلت أدمغة الناس بأنَّ “محليّاتهم” ومقاييسهم “المحلّية” لا قيمة لها أمام المقياس العالمي، وهذا ما يسمّى في علم النفس بالقنونة أو “التعبيد” تعبيد الطرق والأنفس Canalization وقبل ذلك كان العرب معبّدين بفكرة القومية العربية التي صنعت نموذجاً للعروبة مقابل “الشعوبية”، أي مقابل “التنوّعات المحلّية” اللغوية والثقافية، فصار أبناء العراق منذ دخولهم للمدراس يخضعون للهيمنة الثقافية (الدعوشة/ مقياس متطرّف للحق) بحيث يلقن أطفالنا بأنَّ لغتهم العربية المحلية (دلالياً وثقافياً) ما هي إلَّا خطأ، يجب استبداله بالصواب “القومي” اللغة القومية، وصار عليهم أن يستعملوا كلمة “يوجد” بدلاً من “أكو”، ويستعملون أداة الاستفهام العبرية “ما” بدلاً من أداة الاستفهام العربية “ايش” (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية). ما جدوى أن يعرف القارئ كلَّ ما حوله ويجهل هويّته المحلية!
كتب مهملة
ويختتم الشاعر محمد كاظم حديثنا موضّحاً أنَّنا نعيش أزمة حقيقية في تلقّي نتاجاتنا الأدبية، فالقارئ الحقيقي هو من يبحث عن الكتاب ويختاره من بين العناوين الكثيرة التي تطرحها دور النشر. ولا شكَّ أنَّ الأسماء المعروفة التي تتصدّر المشهد تكون حصتها من الاهتمام كبيراً، ناهيك عن الجنس الأدبي الذي يلبّي متطلّبات العصر.
ويرى كاظم أنَّ الشعر هو أضعف الأجناس اهتماماً لدى المتلقّي في الوقت الراهن، و”بما أنَّني أكتب الشعر وأنشره أحياناً على نفقتي الخاصة، لا أفكّر في تسويقه كوني أعرف أنَّه لا يلقى اهتماماً لدى القرّاء، فأضطرُّ إلى إهدائه متجرّعاً الإهانة التي تلحق بي وبالكتاب جرّاء ذلك، لأنَّني واثق أنَّ كتابي لن يقرأ...”.
إذن كيف يجد كاظم قارئاً على قدر بسيط من الاهتمام؟
يجيب على ذلك بقوله: دائماً أبحث عن قارئ خارج الوسط الأدبي، ربَّما يهتمُّ بما أكتب أو يستكشف بعض الأسئلة التي تضيء الذاكرة. كلّنا نعرف مدى الإهمال الذي يتعرّض الكتاب المهدى أحياناً نوهم أنفسنا ونستغل تجمّعاً للأدباء من خلال المهرجانات أو الندوات بأنَّنا قد أودعنا كتبنا إلى من يهتم بها، لكنَّ النتيجة أنَّ عامل الفندق عليه تنظيف الغرف من كلِّ شيء، وسيحتار بحجم الكتب المتروكة على أرضية الغرف. أن تجد قارئاً في هذا الزمن الصعب أمر في غاية الصعوبة، ربَّما تبحث عنه في أروقة الجامعات التي تدرس الآداب من خلال بحوث التخرّج أو الدراسات العليا. علينا أن نعترف بوجود أزمة قراءة ولا سيّما قراءة الشعر.