التأليف المسرحي والتابو

ثقافة 2024/08/14
...




عباس منعثر









علاقة الكتابة الإبداعيَّة بالممنوع علاقة جدليَّة قديمة حديثة لا يكاد يخلو منها عصر على الإطلاق لأنه نزوع بشري متأصِّل بين القبول بالأعراف والمقيّدات وبين رفضها والخروج عليها، والموقف منها له بالغ الأثر في النّتاج الفنّي والأدبي والفلسفي. ومن غير أنْ نتفحصَّ أسباب مواقفنا، لن نتعرّف على الإمكانيات المتاحة لنا للتعبير عن هذه المواقف.

يلعب الخوف دوراً مهمّاً في اتخاذ الكُتّاب طريق السّلامة خاصَّة إذا كانوا ينشطون في دول هشَّة أمنياً وضعيفة قانونياً مثل الدول الاستبداد الأوتوقراطيَّة والدول الثيوقراطيَّة. فالعقاب يؤدّي إلى عزلة اجتماعيَّة، أو فقدان القبول، أو ربّما الموت. قد يكون الخوف من هذه العواقب السّلبيَّة دافعاً قوياً للامتناع عن كسر التابوهات الجنسيَّة والدّينيَّة عند المؤلف، فيلجأ إلى الترميز والإخفاء وتعدّد طبقات المعنى. الأخلاق لا يحدِّدها السلوك العملي، بل يتحدّد ما هو صواب وما هو خاطئ من وجهة نظر مجتمع معيَّن، ومن الصّعب تحديها ومساءلة جدواها مثل قيم الاحترام والتقدير للتقاليد مما قد يصل أحياناً إلى تحوّل الخرافات المجتمعيَّة إلى محظورات يلتزمها المؤلف.

هذا من جانب التعزيز السّلبي، أي في دور الخوف في كفِّ السّلوك، أمَّا التعزيز الإيجابي هنا فهو دعم لسلوك الفرد ما دام مرضياً عنه. إنَّ الصّورة التي يحملها المؤلف عن نفسه في عيون المجتمع تكون لها سطوة على قراراته وتصرفاته. فإذا كان المؤلف ملتزماً تبني قيم وتقاليد معيَّنة، ويتمتّع بسمعة جيدة، سيكون أكثر حرصاً على عدم إغضاب الآخرين للحفاظ على هذه الصّورة. بمحاولة المؤلف تلميع نفسه، سيكفّ عن الاستفزاز في مواضيعه وقضاياه ويبدأ بالطّرح غير الخادش لصورته التي يتمناها في سجلّات التاريخ في ما بعد. وهذه المسألة، ملموسةً أو خافيةً، سيكون لها أبلغ الأثر في الكتابة بشكل عام وفي الكتابة المسرحيَّة بشكل خاص، كأنك هنا تعمل موظفاً عند صورتك، ولو تجاوزت الخطوط الحمر ستطردك صورتك من الوظيفة.

ومن بين أكبر العوائق المكبِّلة للمخيَّلة عند الكاتب: الدّين، الذي يحوْل بين المؤلف وطرحه الصّريح والمغاير. فالدّين، ملاذ نفسي عميق، تتمّ تغذيته وحفره في الصّغار، فيصعب الخروج عليه مهما بلغ المرء من ثقافة وسعة معرفة. وربما يتّسق الكاتب مع دينه بشكل طبيعي أو يظن ذلك، غير أنه في كلِّ الأحوال معرّض للمحدوديَّة حال قبوله بفرضياته ونواهيه. كلّ دين يقول كلمة أساسيَّة: ثمّة قوة ميتافيزيقيَّة مطلقة أوجدت الأشياء وهي تتحكّم بالزّمان والمكان وعليك واجب تجاهها. هذا الواجب هو إلزام لابدّ للإنسان المؤمن أنْ يعمل في ضوئه، ومع كلِّ مقدَّس مضاف تتراكم قيود جديدة للمؤلف. رغم أنَّ عددهم على أصابع اليد، يوجد مِنَ الكُتّاب في كلِّ زمان ومكان مَنْ يخرج على الممنوعات الدّينيَّة بطريقته الخاصَّة، وإن كان بثمن باهظ أغلب الأحيان.

ثمّة سبب آخر يدفع الكاتب إلى سلوك متردِّد في التعامل مع المواضيع الحسّاسة، ألا وهو قياسه لاعتبارات الرّبح والخسارة. هناك حسابات تجاريَّة وقانونيَّة، مثل الجدل والانتقادات لعمل معيَّن قد يكون له تأثير سلبي في استقباله وحضور الجمهور، ومثل العوائق النّاتجة عن القيود القانونيَّة المفروضة على بعض المواضيع المثيرة للخلاف، مما يعظّم الأثقال على عاتق المؤلف الذي ينشد الحريَّة في طرحه ورؤيته. 

ومع اشتراكه مع الفنون الأدبيَّة الأخرى، للتأليف المسرحي خصوصيَّة: إنَّ ثمَّة حضوراً حيّاً لكلمات النّص بالتجسيد فينتج عن ذلك زيادة الضغط بسبب: التلفظ المباشر للكلمات، حضور الجمهور، ومتطلبات الجهات الإنتاجيَّة وطبيعة المهرجانات وقيودها. اضطراراً، سيحسب المؤلف المسرحي، بشكل مضاعف عن المؤلفين الآخرين، ضريبة الاختلاف وأعراف وقيم المجتمع الدّينيَّة والجنسيَّة، للحفاظ على فرص نجاح أعماله وتنفيذها. وهنا ندخل إلى الانتهازيَّة من أوسع الأبواب، رغم أنّه من الضّروري عدم الوقوع في خانة الفظاظة وجرح الآخرين بشكل مجاني وعدم الإحساس بالآثار المترتّبة على التعرّض للمقدَّسات.

 لكنَّ المسألة ليست سلبيةً في جميع الأحوال، فهناك مؤلفون يمتلكون هدفاً فنياً ورسالة مختلفة لا يريدونها أنْ تختلط بالإثارة أو الاستعراض ويفضّلون المداهنة المحسوبة. يختار هؤلاء تجنّب كسر التابوهات للتركيز على الجوانب الأخرى من القصّة أو الرّسالة ولتحقيق أهدافهم الفنيَّة المحدَّدة. هؤلاء المؤلفون لا يرغبون في رفض فنّهم بالكامل بسبب مهاجمتهم قيم المجتمع الكليَّة أو مقدساته التي لا تُمسّ، وإنما يخضعون للثوابت غير القابلة للاهتزاز كي يكون تحقيق التغيير ممكناً في جوانب أقلّ تصلّباً وديماغوجيَّة.

وبالضّدِّ من مداهنة المجتمع، قد تكون القناعة هيَ ما يدفع المؤلف لما يسميه الالتزام القيمي التقليدي عند من يبحث عن الاستقرار الرّوحي ولا يحتاج لأنْ يرجرج القيم المألوفة لأنها تُعينه على الاستمرار. يرى هذا النمط أنَّ احترام التقاليد والقيم الاجتماعيَّة مهم وأنَّ التجاوز عليها يمكن أنْ يسبِّب ضرراً للمجتمع وللعمل الفني نفسه. وهذا المؤلف يبرِّر أسباب قيوده بل يعدّها مصدر قوّته؛ لكنّه هنا يُجبِر نفسه على إلزام الفنِّ بما يلتزم به الفرد، فيتقيّد بذلك الفنِّ والفرد معاً. لا يُفهم من هذا الطرح أنه دعوة لعدم الالتزام الأخلاقي، لكنَّ الخلل في الرّؤية يكمن في أنَّ المؤلف الملتزم أخلاقياً يدعم سطوة السّائد اجتماعياً ولا يبحث عن بديل أخلاقي للقيم الموروثة، فيكون بذلك عامل تضليل ثقافي لما يجب وما لا يجب أنْ يكون.

الأمر نفسه، بتأثير أكبر، يتكرّر عند من يُغلّب التزامه الدّيني على ضرورات الفنِّ فتجده لا يناقش مأزق الإيمان والإلحاد إلا من زاوية ثابتة تؤكد الإيمان، أو أنه يجعل المنطق المضاد للإيمان ضعيفاً وغير مقنع لكي يدعم بذلك توجهه العقائدي. نصوص مكتوبة من هذا المنظور ستكون أحادية، غير جدليَّة لأنها فاقدة للدراما النّاتجة عن الاختلاف. كذلك، أسئلة خطيرة عن سبب وجودنا وكيفيَّة وجودنا والمآل الذي سنذهب إليه ستكون محسومة بقدرة علويَّة تتكفل كلَّ الأشياء أو أنها لن تكون مصدر اهتمامه الأساسي رغم جوهريتها. سيفقد المؤلف العقائدي نصف مواضيع البشريَّة ولن يكون للجدل الفكري والحيرة والصّراع مكان بين جمهرة الثّوابت الدّينيَّة التي يتبناها. وبالعكس، ستكون لدى المؤلف المتحرّر من هذا القيد مجموعة واسعة من المواضيع والرؤى مما يجعل طرحة من طبقات عديدة تناسب تعقيد الوجود البشري.

إنَّ الخروج عن المألوف الدّيني والجنسي والفنّي ليس موقفاً مُعطى؛ بل هو وعي بضرورة الخروج، بمعنى أننا لا نتخذ موقف الخروج مسبقاً بقدر ما تُنتِج تجربتُنا ووعيُنا ورؤيتُنا المختلفة موقفاً مختلفاً بشكلٍ فنيٍّ مختلف. ثمّ إنّه ليس أمراً مجّانياً سهلَ المنال؛ بل هو مُكلِف وخطِر إلى حدود بعيدة. مهما يكن، هذه العوامل تؤثر في سلوك الكتّاب بطرق متباينة من شخص إلى آخر، فهي قد تكبِّل مؤلفاً ما تكبيلاً كاملاً وتُتيح شيئاً من الحرية لمؤلف آخر، في حين يكون أثرها طفيفاً عند ثالث. لا توجد قواعد صارمة في ذلك لأنَّ المؤلفين يتنوّعون في اتخاذ قراراتهم بشأن الممنوعات بالاعتماد على رؤيتهم الفنيَّة وتوجّهاتهم الأخلاقيَّة والسّياق الاجتماعي والثقافي الذي يعملون فيه؛ لكنَّ الشّجاعة تبقى أنجع أداة لإثارة الوعي وتحفيز التفكير وتعزيز الحوار في المجتمع، وهي صفة تسهم في إثراء المشهد الثّقافي والفني بعكس الانضواء الذي يُكرِّر ما قيل ولا يحمل معه أثراً يُذكر.