مديح الظل العالي ونبوءات التحول العقائدي

ثقافة 2024/08/14
...




د. كريم شغيدل




تميزت قصيدة (مديح الظل العالي) باشتغالها على ثنائيات تتبادل أدوار التجلي والخفاء، (النصر- الهزيمة/ الحرب- السلم/ الجلاد- الضحية/ المقاومة- الاستسلام/ البقاء- الرحيل/ الشموخ- الانكسار/ الصمود- التقهقهر/ الأرض- السماء/ البحر- اليابسة/ اليأس- الأمل/ الموت- الحياة/ المأساة- السخرية/ الرثاء- التهكم/ الحصار- الحرية/ الغموض- الوضوح) بمعنى آخر إنَّه تخلص من خطابية النسق الأحادي، وتحول إلى نسق جدلي- حركي،  وهذه هي أنساقه الثقافية المعلنة، إذ جاءت القصيدة مركبة تركيباً تعبيرياً ودلالياً، فلو أخذنا المقطع الآتي على سبيل المثال:

 “لا بَرَّ إلاّ ساعداك

 لا بحرَ إلاّ الغامضُ الكحليُّ فيكْ”

    سنجد ثنائية البر والبحر، وثنائية الغموض والوضوح(ساعداك- الغامض الكحلي)، وثنائية الكل والجزء(ساعداك- فيك)، وثنائية الغياب والحضور(النفي بلا النافية للجنس- الاستثناء المفرغ بألا الملغاة والمتحولة إلى أداة حصر) غياب(الحياة/ بر- بحر) حضور(الإنسان/ ساعداك- الغامض الكحلي فيك) إذ تصبح الأنا بمثابة استعارات للوجود، استعارة مادية(البر= ساعداك)، واستعارة معنوية(البحر= الغامض الكحلي فيك) من خلال ثنائية الظاهر(ساعداك) والباطن(.... فيك)، وكأنما الظاهر هو البر- الأرض والباطن هو البحر- المجهول، بتلميح تعبيري يفضي إلى مدلول الأرض السليبة والبحر المحتل، وهذه متوالية للنسق الثقافي الظاهر الذي يجعل النص جزءاً من خطاب راسخ يجذب المتلقي للتفاعل، ويسوُّغ الوجود الثقافي للنص ضمن جنسه الأدبي المتعارف عليه، ويمكن أن نعدَّ هذه المتوالية للنسق الثقافي ملمحاً من ملامح جماليات الثقافة، ويذكر أنَّ (ستيفن غرين بلات) أول من أطلق مصطلح (الجماليات الثقافية) (شعرية أو بويطيقا الثقافة) تطويراً لمصطلح (التاريخانية الجديدة) الذي أطلقه للتعريف بمشروعه الخاص بنقد خطاب النهضة، في العام 1982م في عدد خاص من مجلة(جنوسة)، على الرغم من أنَّ البعض؛ الغذامي مثلاً، يحددون النقد الثقافي بالبحث عن قبحيات الثقافة، أو ما يسمى بالأنساق الثقافية المضمرة.

          عادةً ما تحيل نصوص الشعر التقليدي إلى أنساق البداوة كالعنف والأنا الفحولية والذكورية وإقصاء الآخر؛ لا سيما في الهجاء، ولم ينجُ الشعر المحدث من تلك الأنساق التي يسعى المشتغلون في النقد الثقافي إلى استنتاجها، إلا أنَّ نص درويش يبدو مختلفاً تماماً، فهو لم يجمِّل صورة الموت أو يتغنى  بشجاعات وهمية أو يتفاخر بأنساب وأحساب وماضٍ وفروسيات وبطولات كاذبة، ولم ينكِّل بأحد لإقصائه أو تهميشه، ولم يمتدح سلطاناً أو سلطة، بل على العكس من ذلك، كان يتمثل مأساة شعب يعاني من الظلم والإقصاء والتهميش والإبادة، ويتمثل هموم وطن سلبت أرضه وشرد شعبه، ذلك أنَّ النسق هو نظام داخلي عبارة عن مهيمنات متوارثة في الخطاب، تشكِّل محركات خفية لصناعة النص، والنسق المضمر ليس نسقاً يمكن لمنتج النص أن يعيه، وإنما هو غير مدرك لا من المبدع ولا من المتلقي، ويمكننا أن نستخلص من نص درويش أنساقاً مضمرة، تحيل إلى الثقافة البدائية كنسق الخيانة، ولكن النسق هنا لا يمكن إحالته إلى الذات الشاعرة، بل هو موقف ضد الآخر، الحاكم العربي الذي خان القضية كما في قوله:

“ واسحب ظلالكَ عن بلاطِ الحاكمِ العربيِّ حتى لا يُعَلّقها

وساما

واكسرْ ظلالك كُلَّها كيلا يمدُّوها بساطاً أو ظلاما.

كسروكَ، كم كسروكَ كي يقفوا على ساقيك عرشا

   في هذا المقطع تتجلى أنساق عديدة غير الخيانة، والمقصود خيانة الحاكم العربي للقضية، ظاهرياً هناك تحريض واضح بفعل الأمر(اسحبْ- اكسرْ) هناك عنف أيضاً لكنَّه ليس عنفاً نسقياً، بل هو موقف ضد الحاكم العربي الذي اتخذ من قضية فلسطين ذريعة للهيمنة والاستبداد والقمع والتمسك بالسلطة، فالخيانة مرموز إليها بالبئر وهنا إحالة دينية إلى البئر الذي ألقي به نبي الله يوسف(ع) بخيانة من أخوته، وهناك إنكار أو إقصاء يقابله خطاب لغوي وشعارات مفرغة من معانيها وجبن، فالنص لم يقع تحت طائلة الأنساق المضمرة في الخطاب وإنما تمثلها بصورة مضادة ليكشف حقيقة الزيف، والخطاب لم يكن موجهاً للعدو المعروف، وإنما لعدو آخر أسهم بالهزيمة أمام العدو بترك الأخ يواجه مصيره وحيداً، مثلما يحدث الآن في غزة، ونرى أنَّ النص يدين عنف الآخر، فالذات المعبر عنها في النص هي الضحية والجلاد هو الآخر، (كسروكَ, كم كسروكَ كي يقفوا على ساقيك عرشا/ وتقاسموك وأنكروك وخبَّأوك وأنشأوا ليديكَ جيشا) صورة مركبة تجسد معاناة الفلسطيني ليس من العدو الغاصب، وإنما من الحاكم العربي، الذي بنى عرشه على مأساة الفلسطيني، وأوهم شعبه واستغفله وهو يضع يده بيد العدو ويترك الفلسطيني وحيداً بمواجهته، ونجد أنَّ النص هنا قد حقق تحولاً نسقياً يخرج عن السائد، بعدما كانت القصائد الداعمة للقضية الفلسطينية لا تخرج عن أنساق التفاخر وادعاء البطولات وهجاء العدو وتمجيد العروبة والتاريخ، وأنتج نسقاً جديداً سيكون له أثر في الخطاب الثقافي العربي، هو نسق المواجهة أو المكاشفة، إذ لم تخضع رؤية النص لأنساق السلطة المكرسة في الخطاب، فغالباً يتجنب الشعراء المساس بالسلطة، وإن كان الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب بخطابه الشعري السياسي المباشر قد أدان النظام العربي جميعاً ووجه له أصابع الاتهام باغتصاب أرض فلسطين في سبعينيات القرن المنصرم بقصيدته الشهيرة(القدس عروس عروبتكم) التي تناقلها الشارع العربي عبر(كاسيتات) التسجيل الصوتي أسوة بقصيدة درويش، إلا أنَّ المدلول هنا أعمق وأقل تجريحاً ومباشرة، إذ جسد نص درويش المعادلة بين خيانة النظام العربي وتبعية بعض الفصائل الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني وتركه وحيداً يواجه مصيره، والنسق المهم الذي يمكن أن نستنتجه من هذا النص هو نسق الاستشراف، أي التنبؤ بالمستقبل، فإذا ما تأملنا قصيدة(مديح الظل العالي) فسنجد أنَّ ما أنتجته من مدلولات يطابق ما آلت إليه القضية الفلسطينية الآن من تمييع وتشتيت وتسابق عربي نحو التطبيع، بينما يواجه سكان غزة جرائم الإبادة الجماعية قتلاً وتجويعاً، وإذا كان النص كتب بين عامي 82- 1983 أي قبل أربعين عاماً تقريباً، يوم كان التطبيع سرياً، من بعض الدول، باستثناء مصر التي وقعت ما يسمى باتفاقية السلام، فإنَّ النص تنبأ بالتحول العقائدي العربي والتغرب أو الاغتراب أيديولوجياً.