جدليَّة الأثر المكاني

ثقافة 2024/08/15
...

  زهير الجبوري

إنَّ الدخول الى تجربة الشاعر عمَّار المسعودي ومجموعته الشعريَّة "صيف أسمر" يُحيلنا الى قراءة الشاعر قراءة محيطيَّة، قراءة تظهر فيها علامات وجوديَّة وحسيَّة معاً، بمعنى ثمّة استنهاض ما حولي هائم في تجلياته، وهو أمر بديهي حين نمسك ببيئة (المسعودي) وهو ينتمي الى جغرافية مكانية ذات أواصر متداخلة في (النهر، الشجر/ النخل، الأرض، الطيور، الهواء، الضوء) ربما تأخذنا هذه العلامات إلى ظاهريَّة "باشلارية"، غير أنَّ الموضوع يتمظهر بذاتية دقيقة جدًا، تأخذ على عاتقها حضور الشاعر في محيطه المكاني ونشأته والجذر الرعوي الذي شكّل منه شاعراً بالشكل الذي ظهر عليه، كذلك حضوره في نصوصه بلعبة (لغويَّة/ شعريَّة) تشكّلت عبر كينونته مع ما تمتعت به من إشارات غاية الأهمية، فالطبيعة وهو يتشاكل معها بوصفه الكائن المرتبط معها ارتباطًا جدليًّا، حولها عبر قصائده الى "نسق ثقافي"و "نسق درامي" و"منولوج داخلي وخارجي"، ما أخذ على عاتقه البوح في هكذا إطار مكاني بلغة الذات المنشطرة، فهو يخلق من ذاته آخرَ يتماهى معه ويماهيه، لأنَّ حالة الصفاء تجعل منه مرآة عاكسة لذاته ليكون الآخر عنده هو ذاته المتجليَّة مع الأشياء، لذا نقرأ: "نحن هنا اثنان حالمان، لا ثالث لنا، / حتى قررنا مؤخراً أنْ ألاّ نتبدئ ببعضنا/ ما جعلنا مستنجدين بصوت الريح".
نصوص المجموعة انطوت على الأثر، بما تحمله من علامات استجابت بسهولة للـ "أنا" الجمعي، وبرومانسية ابن الحقل المسترخي الذي لا ينتمي الى صخب المدينة، بقدر ما ينتمي الى نقاء المكان بإطاره المفتوح وبالأحداث الملتقطة والسريعة، فهي أحداث تقع يوميًّا داخل إطار المكان، أو كما تقول سيزا قاسم "المكان هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث"، لذا نمسك بقرار الشاعر حين ينتفض من أزمات العالم ويعبر عن عالمه الما حولي بقوله "لو تسامحنا لموسم واحد لكان للأثمار طعم آخر"، في هذا المقطع الشعري اختصار كبير لعقلنة الأشياء المضطربة التي يعيشها العالم اليوم، غير أنَّ عالم المسعودي يعبر عن أثره وعن إشاراته لكلّ ما يدور في فضاء واسع بغية تناظره مع عالمه التأمّلي الذي يعبر عن عمقه الذاتي. فضلاً عن ذلك، أخذت بعض نصوص المجموعة بما يمكن تسميته بـ "تدوير اللّغة"، وهي لعبة أدائيَّة/ لغويَّة أخذت على عاتقها قدرة الشاعر المسعودي في تطويع الجملة الشعريَّة بمهارة الصياغة والأداء معاً، ما أثارت المتلقي في انتباهة كبيرة مفادها أن الشعر لا يقف عند موهبة الكتابة وتزويق البلاغة فحسب، إنما قدرة الشاعر على الأخذ بمرونة الصياغة بالقدر المقنع والمناسب، وهنا لا بدَّ أن نستوقف تجربة الشاعر بوصفها تحمل خصائص شعريَّة مسرودة، او بالأحرى تلك التي أشار اليها "جيرار جنيت" في كتابه "أطراس" ما أسماه بـ "النصيَّة الجامعة"، وهي تطرح التعالق النصّي لجامع النصوص، ككل نقرأ في قصيدة (الذي يخالف وصاياه): "أحب نتيجة لا لأسباب.. ومحوراً لا لكتابة.. وحزناً لا لفقدان.. وصمتاً لا لكلام/ أحب قافية لا لبيت.. وشعراً لا لذكر/ أحب الغياب لا الحضور.. أحب النسيان لا الذكرى".. كذلك في قصيدة "ملائمة": "إنْ وجدني في البياض لامني/ إن وجدني في السواد لامني/ إن عالنته لامني.. أو ساورته لامني".  ما بين "أُحبُّ" و "لا" في القصيدة والأولى، و"إنْ" و "لامني" في الثانية، ثمّة تدويريَّة شعريَّة تنتمي إلى أسلوب المسعودي، ولعله يكتب ويشاغل ويطوع الأشياء مثلما يريد، وهذه التدويريَّة واحدة من مهاراته.
"صيف أسمر"، مجموعة تستدعي انتقائيَّة عالية لمحوريَّة "المكان/ الطبيعة" مع "الذات/ أنا الشاعر"، ومع شغف الوصف وحلمية الأشياء الموصوفة، وبإحساس هائم في الـ "الما حول"، لا أحد يفرض على إيقاعية الكتابة الشعرية عنده ـ أي الشاعرـ بقدر ما تستفيض أحلامه اليقظة حين يقول بحماس بارد "إنّها عناصري التي هي بعض صدق وبعض كذب وبعض حقيقة وبعض خيال وبعض ظهور وبعض اختفاء فلا تنشغل فيها وتنساني".
وحين نمعن أكثر في غابة المسعودي التي رسمها في مجموعته، تتضح أنسنة الأشياء بوصفها علامات حاضرة في حياته ومناظرة في وجوده، ولا شك في ذلك حين تتضح النصوص على مقربة من التوظيف الشعري، لذا يقول "هذا الحطب اليابس الذي أرى فيه ليس أنا../ هذه الأغصان التي تحضر بدلاً عني ليست أنا../ هذا الانتظار الذي أحاول تأويله بزحام ليس أنا". ترى هل من شاهد يضع ترسيمة القصائد بكل ما تحمله من علامات دالة وشحنات واصفة بداخل ذات الشاعر؟.
أعتقد أنّ الأمر يقتضي قراءة ما قبل كتابة القصائد الى ما بعدها، لأنّنا أزاء لغة شعريّة انطلقت من "يوتوبيا المكان" ثمّ مررت بـ "ذاتية الشاعر" ثمّ في "اللغّة الشعريّة ذاتها"، فلم تكن النصوص جميعها سوى جدل وجودي، يمضي في مشواره مهما كانت التوصلات التي يمسك كلّ واحد منّا التقاطاته النقديَّة، فالمسألة من ناحية المتلقي مجرد توصلات لمخيال ذهني انتجته الصور الشعريَّة، في الوقت الذي نبحث فيه عن احتشادات هائمة لمملكة الشاعر عبر توهّجات غاية الدهشة في عوالم الأماكن المفتوحة التي تضمنته القصائد التي أعطت مبنى دلاليًّا مختلفًا في الشعريَّة العراقيَّة.