التّنوير بين الخرافة والإلحاد

منصة 2024/08/18
...

 عصام كاظم جري 

إن العمل والتّعليم والمعرفة والفلسفة والمنطق والدفاع عن حرية الرأي والمعتقد وغيرها، تعدُّ أنواعا ثقافيّة، فضلا عن التّنوع الدينيّ والاجتماعيّ والجماليّ والسياسيّ.. 

يقول فولتير: "العقل هدية الطبيعة، أمّا التّنوير فهو هدية الثقافة والتّعليم". هذا القول وغيره من الأقوال المماثلة تلخص جوهر التّنوير. 

وبالعموم التّنوير توصيف ثقافيّ وتأريخيّ وفلسفيّ وإنسانيّ متفوّق على بقية التوصيفات التي تمنح الآخرين حقوقهم في كل مجالات الحياة، من غير الالتفات إلى الإثنية والجنس واللون والطائفة، فالالتفات إلى تلك الجزئيات طريقة وحشية وبدائيّة، لاتختلف عن محنة الإرهاب وبشاعة الاحتلال في شيء، ويقول دينس ديدو: "الغاية من التّنوير تحرير العقل من الخرافات وإعلاء قيمة العقل والمنطق"، لا يخفى على أحد عندما ترد كلمة "التّنوير" تذهب نوايا البعض مباشرةً إلى نقد الخطاب الدينيّ، أو محاولة فضح أمراض الدين، أو التّحريض ضد مفهوم الدين..  في حين أن التّنوير فكرة لا تعمل على نقل الجدوى من الإيجابيّة إلى السّلبية، هو تجديد وتغيير ومنفعة إيجابيّة وحضاريّة وأخلاقيّة، وبدون التّنوير يظل العقل مصنعا لإنتاج الظلام ، والتّنوير ليس بحلم يقظة طويل، ولا بصوت مرهف الحس، ولعلّ "الإمام محمد عبده" واحد من أبرز المجددين في الفقه الإسلاميّ في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وعلم من أعلام النهضة العربيّة الإسلاميّة الحديثة، استدلّ بتنويره معظم كتّاب التّنوير في العصر الراهن؛ وأسهم  بوعيه واجتهاده في تحرير العقل من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في اِيقاظ وعي الأمة نحو التّحرر، وبعث الروح الوطنيّة، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التّطورات السّريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وقد تأثر به العديد من رواد النهضة.

إذاً التّنوير اكتشاف الذات بدون أقنعة ومستحضرات التّجميل، وهو قوة كفاح وحركة ثوريّة مفعمة بالتّجديد الآني، هو قوة خلاَّقة وقادرة على تصحيح المسار وتجاوز كلّ الأخطاء الجسيمة التي قد تحدث.

التّنوير ليس كتابة قصص ومنصات قصائد، وليس تأليفا وطباعة كتب وإقامة مهرجانات ومؤتمرات، وإنما هو فكر متحرر وصفحة معرفيّة وتجربة فريدة، ويعدُّ دعوة لقراءة نتاج كلِّ الأمم والشّعوب، وهو تنشيط وتقوّية للقوانين والاتفاقيات والمفاوضات الدوليّة، والعمل وفق الحقوق والواجبات، ويتناول المفاهيم بطريقة مختلفة مجردة من فكرة التابوات، يحق الحقوق بطرق وقائية بدون أوسمة إبداع صدئة، وبدون قلائد ذهب كاذب، وبدون شهادات تقديريّة بائسة.. التّنوير ليس إنجازا بقدر ما هو إدراك ووعي وتمثيل ونتائج مادية ملموسة، وحين نحاول السمو بفكرة ما لمرتبة الصفاء لابدّ من التّجرد والتّحرر من كلِّ الأعراف والمعتقدات، حينها نفهم معناه.

إنه الطريق الوحيد الذي تتفتحُ في نهاياته نوافذ عدة داخل غرفة العقل، والتّنوير ليس تأليه العقلانيّة على حساب التّعاليم الإلهية كما ذهب البعض، وهو ليس بوابة الإلحاد الواسعة. فإذا استطاع الإنسان أن يقرأ  التّعاليم الدينيّة وفلسفة التّنوير في مسيرة حياته، يكون قد فهم المعنى المراد منه. وأعظم ما قيل في فلسفة التّنوير قول إيمانويل كانط فيلسوف التّنوير 

الأكبر: 

"التّنوير هو تحرر الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه. الوصاية هي عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص دون توجيه من الآخر. ليس القصور العقلي سبباً في جلب الوصاية، بل السبب انعدام الاقدام والشجاعة على استخدام  العقل".