جمال العتابي
تصوير: خضير العتابي
صاغ الإنسان الرافديني أسس الفن والثقافة الإنسانيَّة العالميَّة وامتلك طاقة استثنائيَّة في التصوّر والتخيّل والتأمّل، والملاحظة الدقيقة، لما أنتجه من أعمال فنيّة خالدة تزيّن متاحف العالم.
لقد عبّر الفنان القديم بكل إرادة وحريَّة عمّا يُحيط به ويراه ويخافه أو يروم السيطرة عليه، برسومه في الكهوف وعلى صخور الجبال، فهي أقدم أشكال التعبير الفني ضمن انطباع تعبيري حسّي عرف بفن الجداريّات، كما اصطلح عليه كحقل من حقول الفن التشكيلي، كان له انتشاره في التاريخ قديماً وحديثاً، حيث للعقيدة والخلود أثر في امتزاجها بالنزعة العقائديَّة إلى جانب وظيفتها لتخليد ذكرى أو مناسبة أو حدث.
شهدت المدة التي أعقبت الحرب العالميَّة الثانية تأثّراً كبيراً في الفكر، ولجأ الفنانون إلى الهروب من آثار الحرب والخراب نحو التمرّد على القيود التقليديَّة، واكتشاف مفاهيم حديثة وخامات جديدة تعبّر عن أفكارهم واتجاهاتهم الفنيَّة الجديدة. وكانت الخمسينات بداية التحول الأهم في ميادين الإبداع العراقي، فظهرت الحاجة للنصب والتماثيل والجداريات التي تنسجم مع متطلبات العهد الجديد، وبرزت الدعوة لتأسيس هوية وطنيَّة فنيَّة.
كان الراحل جواد سليم أبرز فناني هذا الاتجاه فجسّده في ملحمته الخالدة (نصب الحريَّة) كمنطلق لمدرسة عراقيَّة معاصرة للفن الجداري في العراق. عبر تلك المراحل وما تلاها كان العراقي قد أسس تجربته الخاصة في الفن الجداري، ويشير الواقع إلى ما يدحض تأثره بالمدارس الأوروبيّة بذريعة غياب التراث الفني العراقي، فالصور الجدارية في قصور سامراء، وجداريات الزخارف الجصيّة في المدرسة المستنصرية والقصر العباسي وقباب المساجد ومآذنها تقدم أمثلة حية على الإمكانات الفنيّة العالية التي توصّل اليها الفنان العراقي في العصور الإسلامية وما سبقها من أيام سومر وبابل. إذ أدرك الفنان بوقت مبكر تاريخ العراق واستلهم حضارته بوعي منه بالتقاليد الفنية العراقية خلال العصور المختلفة، وربطها بمعطيات التطور المعاصر.
وفي أول إشارة لتأثير الفن الأوروبي في الفن العراقي تلك التماثيل الأولى التي نحتها الإيطالي بيترو كانونيكا كتمثال الجنرال مود، والملك فيصل الأول، والآخر لعبد المحسن السعدون، وفي نهايات الأربعينات كلفت أمانة العاصمة أحد النحاتين الروس يدعى (إسكندر) بتشييد نافورة من الحجر في شارع الشيخ عمر تمثل أربعة أسود يندفع من أفواهها الماء فسميت بـ (ساحة السباع). وبقدوم الرسامين البولنديين إلى العراق تأثر عدد من الرسامين العراقيين بأساليبهم وتجاربهم الفنية. كانت المحاولات الأخرى التي نفذها الفنانون بسيطة ومتواضعة على الرغم من اعتمادها على المنابع الحضارية العراقية، لاقتصارها على الجانب الفوتوغرافي في الاستلهام وعدم ربطها بمعطيات فنية معاصرة، كما في جداريَّة (الأخوة) لخالد الرحّال في البنك المركزي، وجداريَّة أخرى من السيراميك الملوّن في واجهة الأوقاف العامة في الكرخ لصالح العامري، أما جداريَّة واجهة مستشفى فيضي التي نفذت في أوائل ستينات القرن الماضي لنعمت محمود التي اقتصرت مهمتها على رسم الجداريَّة وتصميمها، ثم نفذها ناظم رمزي بمادة الموزائيك (حسب رواية شمس الدين فارس)، العمل يُعيدُ لأذهاننا شخصيات الواسطي في تكوينها اللوني والزخرفي وطراز الملابس، كما شهدت تلك السنوات تنفيذ جداريَّة أخرى خلف حديقة الأمة "ساحة الطيران" لفائق حسن، يبدو فيها تأثير تكعيبات بيكاسو واضحة، إلا أنها مشعّة باللون ومتوهّجة فيه، لأنّه العنصر الأساس في أعماله يكشف عن قدراته المذهلة في التعبير الفني.
اتجه الفنان العراقي نحو فن الجداريات باعتباره اجتماعياً يتذوقه الناس بمختلف مستوياتهم بحكم انتشاره في الطرق والساحات العامة وواجهات البنايات والجدران، فضلاً عن ذلك قدرة هذا الفن على طرح المضامين والدلالات المختلفة والتأثير في المتلقي، واسهامه في تنمية الذائقة الفنية والجمالية لدى المتلقين، كما يرتبط الفن الجداري بالحركة العمرانيَّة والجوانب الثقافيَّة والاقتصاديَّة بوصفها نقاطاً دالّة في المدن الحضاريَّة وتنشيط السياحة، وأخيراً يعد الفن الجداري من الفنون البيئيَّة التي تسهم في تزيين المدن وتجميلها وتترك أثرها في خلق متعة بصريَّة ذات دلالة إيجابيَّة مريحة لدى الجمهور.
في ضوء تلك المعطيات، حاول الفنانون العراقيون إيجاد مدرسة عراقية جديدة في الفن الجداري بشكله التطبيقي الفعّال، ولعلّ أبرز ملامح هذه المدرسة العودة الى التقاليد العريقة للفن العراقي القديم، واستلهام الموروث الشعبي في صياغة أعمال ذات خصوصية مبتكرة، نذكر على سبيل المثال جدارية سينما بابل، وجدارية المصرف العقاري للفنان المغيب شمس الدين فارس. لكن العلامة الأهم في جيل الستينات كانت ما طرحه كاظم حيدر من رؤى جديدة تحمل مضامين درامية في الرسم الجداري العراقي المعاصر، إذ استطاع أن يخلق مناخاً مرتبطاً في بيئة الصحراء وتكوينها وامتدادها الشاسع.
أخذت الأعمال تنفذ بأشكال أكثر تنوعاً بالرؤى والتقنيات واتجهت نحو ابتكار أساليب جديدة ومعاصرة ذات ارتباط بتاريخ وتراث العراق مثلما فعل النحات محمد غني حكمت الذي نفذ أعمالاً من مادة الخشب لواجهات وأبواب متعددة في العراق وخارجه.
اتجه الفنان نحو الأسلوبية الفردية والتأكيد على التجربة الخاصة في العقد السبعيني، وبرز ضمن هذا الاتجاه غازي السعودي الذي أعاد الموروث التاريخي والشعبي بمفرداته ورموزه وسماته المعبّرة في جداريات نفّذها بتكليف من أمانة بغداد في مداخل متنزه الزوراء والمتحف البغدادي، وللفنان فالنتينوس جدارية نادي الضباط في الكسرة، كما اشتغل الخزّاف سعد شاكر مجموعة جداريات في مبنى دائرة الاتصالات في السنك، ونفّذ قاسم حمزة جداريات مطار البصرة، وغيره كعبلة العزاوي، نهى الراضي، شمس الدين فارس، حميد راجي في تنفيذ جدارية المصرف العقاري في مجمّع الصالحية، مثلما اشترك مؤيد نعمة، هناء معلّة، سلام عطا صبري في جدارية قصر المؤتمرات، ونفذت سهام السعودي جدارية مسرح الرشيد، وفي المسرح لوحة كبيرة لعامر العبيدي، ولأمين عباس جدارية في مستشفى الطفل في بغداد، وفي مطار بغداد أعمال جدارية متعددة لبتول الفكيكي وسلمان عباس.
من المؤسف أن ترافق ثقافة هذا الفن الجميل، ثقافة مضادة تحاول إزاحته ومحو أثره، جرى ذلك في أزمنة متعدة حسب تبدل الأنظمة السياسية، وتغير الأمزجة، بينما تتراجع الرؤية الجمالية والتقاليد الفنية أمام أعمال فاشلة وهزيلة تمثل حالة الانحطاط والبؤس في الذائقة، كما تمثل تحدياً واستهانة بتراث العراق الحضاري والثقافي، لتماثيل ونصب تعرضت إلى التخريب أو العبث والسرقة. ومن المعيب جداً أن تنتشر النماذج الهابطة والفاشلة فنياً في ساحات مدن عديدة في العراق تمثل حالة من الانحطاط والبؤس في الذوق من دون أدنى احترام للتقاليد الثقافية والفنية العراقية.