شيخوخة

ثقافة 2024/08/19
...

 حسب الله يحيى


يجلس تحت شجرة الليمون الوارفة الأغصان والأوراق.. تبادله الجلسة قهوة الصباح المرة التي لا يرضى أن يعدها سواه.

ومع أنّها تنسكب في أحيان كثيرة، إلا أنّه يغفر للقهوة هذا الخطأ، ذلك أنَّها من فرط الحرارة.. تنتفض، وهو من ضعف أصابعه؛ لا يفلح في الاحتفاظ بها كاملة في القدح، فقد تفيض مرارتها وتلقي بنفسها في صحن يحتضنها.

القهوة.. كائن يرى ويحس ويصغي إلى همس من يتناولها على مزاج رائق، ومن هو على جفاء وألم.. لذلك تم اختيارها في الأفراح والأتراح.. هكذا يؤنسه جوابه.

يجلس الرجل العجوز وحيداً مع قهوته.. يبادلها نخب نسائم الصباح.. يُلقي بنظراته الى الأشجار والنباتات التي تخلت عن إطلاق أزهارها العطرة، إما لأنّها تحس بالإهمال، وإما لأنّها عطشى، وإما لأنّها باتت عاجزة عن الإنتاج بسبب شيخوختها مثله.. مثله تماماً.

في وقت كان فيه حذراً وهو يطلق على الأزهار صفة الشيخوخة.. ذلك أنّها تزهر وتعطّر الأجواء أحياناً وتختفي في أحيان أخرى..

يقول: الشيخوخة ابنة العجز واليأس والانطفاء.. والنباتات ابنة الحياة والأمل والجمال.. لا مقارنة بينه وبينها.. المقارنة تظلمها وتنصفه، وإنصافه يعني أنّه يدرك جيداً حقيقة أمره، وحقيقة أن يكون هناك أكثر من برعم يتنفّس الحياة، يبحث عن ضوء النهار ودفء الشمس، ودفق المياه كل صباح.

في هذه الأجواء.. وبعد أن تناول قهوته وسقى حديقة منزله وألقى نظرة على أزهارها، راح يسير.. وللمرة الثالثة يمر من هذا المكان.. كان به استعداد أن يمر للمرة الألف من دون أن يحس بالملل أو التعب أو الضجر.. بل هو على العكس من ذلك، ما إن يقرأ اللافتة والمدوّنة باسمها حتى يحس بالنشوة، وبأن أعوامه الثمانين قد استعادت شبابها وباتت دون العشرين!

كان في المرة الأولى التي شاهد فيها اللافتة؛ كان يصحبه ابنه..

كانا يبحثان عن طبيب متخصص في المفاصل، تأمل الاسم جيداً، توقف عنده قليلاً وراح يتأمل الاسم جيداً.

سأله ابنه: هل تعبت.. استرح.

واستراح في المكان ذاته، عند الرصيف، مقابل الاسم.. أراد أن يبوح لابنه بكل شيء إلا أنه تراجع سريعاً، ذلك أن سراً احتفظ به لأكثر من ستة عقود لا يمكن أن يعلن عنه هكذا.. وبهذه السرعة.. ولمن لابنه الذي سيتهمه بالمراهقة وربما يسخر منه ويسحبه ضاحكاً..

ووزع الابن نظراته في أسماء الأطباء.. وتوقف عند أحدها:

- أبي.. هذا هو طبيب المفاصل.. هيا نذهب إليه.

أراد أن يجيبه:

- لا حاجة لي به.. بي حاجة إلى طبيب آخر.. خاص بالقلب عارف بأوجاع قلبي وما يختزنه من مشاعر استيقظت معلنة عن نفسها وأنّها ما زالت تختزن الشيء الكثير عن الاسم الذي لا يراه سواه!

إلا أنّه استجاب لنداء ابنه وتوجه الى طبيب المفاصل.. تأمل الطبيب الأشعة وسأله عن تفاصيل مرضه.. قال:

- يا عم بك حاجة إلى إجراء عملية في العمود الفقري.. ولا يوجد لك علاج سوى العملية.. أو تناول المسكّنات وهي مضرة إذا تناولتها باستمرار.. لك الخيار

وعلى عجل حسم الأمر:

- لن أجريَ عملية وأنا في هذا العمر.. ولن أتناول المسكّنات.. سأعتمد على قدراتي في احتمال الألم.

حدّق الطبيب في عينيه، وبدا على ملامحه العجب من جواب مريضه.. وفيما ألح الابن على كتابة العلاج.. رفض الأب، وما بين إصرار الأب ورجاء الابن كان الطبيب حائراً.. وحسم الموضوع:

- عيادتي مفتوحة، ولكما الخيار. 

خرجا.. الابن يمسك بيد أبيه ويساعده في جر خطواته.. فيما كان يريد الانفلات منه.

- أنا بخير.. اطمئن يا ابني.

وفي سره كان يقول:

- لقد وجدت العلاج.. وجدته.. يكفي أن أزور هذا المكان..

لم يكن المكان قريباً الى بيته.. ولم تكن الذاكرة المخزونة قادرة على البوح بما يعتمل في داخلها بهذه العجالة.

في البيت استراح الى القرار الذي اتخذه بنفسه.. لا اجراء للعملية، ولا مسكنات، فمن صبر كل هذه السنوات؛ له القدرة بالتأكيد على احتمال ألم المفاصل التي تبدو بالنسبة اليه هينة.. هينة ولا خوف عليه من تفاقمها.. كما تفاقمت تلك الذكريات.

في المساء.. استراح على كرسي، وتأمل الأشجار والأزهار.. تأمل ذكرياته وقهوته وقدح الماء أمامه..

كان كل شيء يبعث في نفسه الطمأنينة.. شرط أن يتأكد إن كان الاسم يعنيها هي بالذات من دون سواها من الطبيبات.. كانت سنوات الغربة والسقم والأعمال المضنية قد أخذت الكثير من سنوات عمره، ولكنه كان يمتحن نفسه طوال هذا الزمن في القدرة على الاحتمال.

تزوج وأنجب، وابتعد زمناً طويلاً عن المدينة، وذهبت به السنوات في شعاب الأرض، حتى إذا شاخ الزمن وشاخت معه سنوات عمره، ووجد نفسه وحيداً مع ابنه وأحفاده..

تبين له أنَّ كل تلك الصفحات من الحياة المرة قد أخذت لها مكاناً في تلافيف وعيه.. وبقيَ هناك مكان خاص لم يدشنه أحد ولم يلمس أو يقترب منه أو يكشف عنه أحد..

                                              ........

في الأيام اللاحقة.. وجد نفسه في شوق شديد الى ذاك المكان.. حتى يتأمل الاسم، ويعيد الذكريات الى عالمه.

توسل ابنه حتى يرافقه في (نزهته) كما ادّعى لابنه.. وأن هناك سيارات أجرة متوفرة يمكن أن تقله الى أي مكان يقصده.. وعلى عتب.. استجاب الابن إلى رجاء ابيه.. حتى أصبح من المألوف أن يكون للأب نزهته مساء كل يوم..

في المساء العاشر.. تجرأ وتوجه إلى المكان.. وقرّر أن يلتقي صاحبة ذلك الاسم الذي ظل مضيئاً في قلبه على مدى كل تلك السنوات العجاف التي عمد إلى نسيانها.. عمداً، مثلما عمدت تلك السنوات المرة في أعماقه.

لكنه وفي تأملات شيخوخته وجد أنّها ما زالت موجودة، كوشمة حفرت اسمها في مسامات جسده ونبض قلبه وأنفاس روحه وتلافيف عقله..

توقف عند الباب.. سألته السكرتيرة:

- يا حاج.. هل أنت مريض وتريد أن ترى الدكتورة..

 تردد في الإجابة:

- لا.. لا.. لا يا ابنتي، وإنما كنت أسأل..

- تسأل عن ماذا يا عم...؟

- لا.. لا شيء، لا شيء يا ابنتي..

اختفت الكلمات في فمه.. فماذا يسألها وماذا يقول لها.. ولماذا ظل ثابتا في هذا المكان من دون الانتقال الى مكان آخر.. وماذا يعني انتظاره كل هذه السنوات حتى يبوح لها بحبه، بتعلقه بها منذ صباه.. وما جدوى أن يعلن لها بعد هذا العمر الذي بالكاد يجر فيه قدميه وانفاسه..

ولماذا يثقل عليها ويشغل بالها ومستوى عيشها وعالمها الذي كان مملوءاً بالطموحات.. لماذا يريد أن يطفئ كل هذه الطموحات التي رافقت حياتها.. لماذا؟

على تعب، جر قدميه ونزل الى الشارع، إلى سيارات الأجرة التي مكّنته من الوصول إلى بيته.. وهناك اصطفى المساء رفيقاً والقهوة سلوى واسترجاع الذاكرة التي شاخت وشاخ معها العمر كله.