ياسين طه حافظ
أعلم كم صعب قول الحقيقة وكم نميل عنها، لا إليها، لكي لا يطالنا الخلاف أو العصيان.. لكنني اليوم أريد تفكيك بعض مما اتخذناه واسطة أو قانوناً أو عرفاً اجتماعياً أو مذهباً، لتنظيم حياتنا ولكي نسلم أو ننجو.
لن استفز أحداً إذا قلت كانت الناس لعقدين أو ثلاثة عقود مضت، يحكمهم الله والعشيرة والقانون. وللأسف، قل خوف الله، وتفرّق أبناء العشيرة في المدن، وكان وما يزال سهلا الاحتيال على القانون، فليسوا قليلين من ينجون من التبعات. وليسوا قليلين من يأثمون.
نحن إذاً بإزاء مشكلة، ولم يتوقف البحث عن حلٍّ لها. ونحن في أحيان كثيرة نترك الأمور كما هي عليه ما دمنا بعيدين عن سوئها، وما دامت المجتمعات بالخير والشر وبالاستقامة ونقيضها يعيشون. وربَّ قائلٍ يقول: ومن لا يتمنّى صلاح كلّ شيء، بعد أن افتقدنا المصالحة مع الحق والواجب وصرنا نساوم الخطأ ونتجاوز الحكمة والصواب؟.
لا يبدو أنّنا بعد تمتلك تسويةً مثلما لا يبدو أنّنا نمتلك حلولاً. ومصالحنا هي وأكثر.. وبدلاً من الإقرار والتراجع، يتخذ السلوك نزعةَ رفضٍ لقوانين الدولة – وربما حرْفها قليلاً، أو رتقها برفعة قديمة لتكون صالحة. وقد يتسع الرفض لإدانة القوانين وطلب حديثة مقنعة، فالزمان غير الزمان والعالم غير العالم ونحن ما عدنا نعيش ذاك العيش. لم تعد إذاً كافيةً العودةُ للصواب الذي كان، بل صار المطلب تغيير القوانين، بل وتغيير سياسة الدولة وأنظمتها واحترام الإنسان الجديد وما يريد. المشكلة، العسيرة الحل والمربكة، أن كل نظام، كل عرف، كل عقيدة إيمانيَّة أو إلحاديَّة، لها مناصرون وإتباع مستعدون للدفاع عنها وحتى لاكتساح وقتل وتهجير خصومهم. الإخلاص للصواب أو المعتقد، أمر حسن أصلاً. لكنّه يفضي إلى ارتكاب السوء ويحدث، إذا طغى، ضرراً ويقلق استقرار ناس وسلامة مدينة أو بلد.
ما كان حاجةَ عيشٍ أفضل وآمن، لم يبقَ كذلك. صار غاية لذاته. تحول واسطة إلى غاية. يشبه هذا ما للفن إذ كان حرفة ووسيلة تعبير عن حاجة أو معنى، فاستحال، برقيّهِ، فناً لذاته. وهذا ما سُمّي بـ "الفن للفن". لا يعني هذا نكراناً أو لامبالاةً بالحاجة، أو بالهدف أو الغاية لكن الزمن، زمن التطور، ترك الحاجات للمتخصصين بها وانشغل الفن بآفاقه الفنيّة.
عبر التاريخ، ما توقفت رغبة العقلاء من الناس أو إخبارهم، أو مثقفيهم، بأن يكون كل شيء جيداً أو مفيداً أو مريحاً أو عادلاً. كل فرد، كل فئة، كل أصحاب رأي ومعتقد، يريدون ذلك، يريدون اصلاح كل شيء. لكن وبحال شبيه بحال الفن للفن، تطور أصحاب العلم والمعرفة لأن يريدوا المعرفة لذاتها والعلم لذاته، وغيرهم من يستغل ويفيد. وبهذا ومن خلاله خُفّضَت معارف كثيرة، واختزنوا علماً وأضاعوا علينا تقنياتٍ وأفكاراً. جانب آخر من الناس، لم يروا في المتيسّر من المثْل والأنظمة والعقائد ما ظل موائماً و "معاصراً" فشاؤوا سواها، وراحوا يسعون لما يرونه أفضل أو أصوب. صاروا يترسّمون جديداً يُوائم العصر وناسه، أو يُوائم ذواتهم الجديدة.
لقد كان ذلك حلّاً للخلاص من القديم وما يصحبه من انحيازات، وتقديم ما يلبي احتياجات الجميع ويرضيهم، كما يبعدهم عما يسبب صِداماً أو عداوات.. دين جديد أو فلسفة حياة جديدة، تعنيان تغيير مناهج وأنظمة وتعنيان تربية حديثة وحريات غير مؤكدة النتائج. ظل هذا حلماً. فالخصومات الدينيَّة والمذهبيَّة والانتماءات المتعارضة صفات عصرنا والعصر الذي سلف والناس غير مستعدين ولا يرتضون، كما نرى، إبدالها بيسر. ارتبطت مصالحهم بها. وتتوالد طموحاتهم منها وتنبثق منها مشاريعهم. إنَّ امتلاك جديد مفترض، أو منظومة مُثلٍ جديدة، سرعان ما أوجدت لها تفرّعات وانحيازات.. وإن بدا التفكير الجديد نتاج عقل، لكن هذا العقل نفسه لم يتوقف، استمرَّ يُنتج أفكاراً جديدة ويأمل بأن يرى علاقات إنسانيَّة جديدة.
وهنا يكون المسعى التربوي لتنمية الجديد المستحدث، قد خيّب جهود العاملين لحضوره. وأدرك من جرّبوا أن الجديد الفاضل أو المثالي أو المستقيم أو الأصلح لهم، لن يظل مفرحاً كما هو في التصور وإن جديداً آخر في الطريق وآمال جديدة في الطريق. والعاملون من أجل تحديث الحياة والعلاقات الاجتماعية ما انقطعوا عبر التاريخ ولن ينقطعوا وسيظل الإنسان يسعى للأفضل أفكاراً وسلوكاً وآمالاً وعلاقات إنسانيَّة.
أراجع نفسي دائماً، غير مطمئن لمسلّماتي وكأنّها تخونني ولا أدري. أسالها: لماذا الخوض في إشكالات كهذه، وما الذي يسحبني لمثل هذا المزدَحَمِ المتزايد من الأسئلة والآمال، من الاعتراضات على ما استقرَّ وما استجدَّ؟
حقيقة الأمر، ليست الفلسفة وراء ذلك. فلا تظنوا مثل هذا الظن. ما وراءها هو حرفتي الأدبيَّة، انشغالات الأدب ومديات فعله، تساؤلي إن كان الأدب يعمل في ذلك المسعى، ضمن الساعين، لإيجاد صفاء إنساني؟، وهل يحل عُقَداً شائكة ومِحَناً وتقاطعات في الطريق، في الطريق الذي يوصلنا لحلول ورضا وعدالةٍ أو تصويب سلوك؟، هل الأدب يُعجّل إلى ما نتمنى وما تمنى مَنْ قبلنا لأن تعيش الإنسانيَّة بانسجام أو برضا، وبعيداً أيّتها الازاحات، بعيداً أيتها الأسلحة.
حُرمنا، أو افتقدنا الطريق السويّ السهل وليس للثقافة، إذا تسامت غير هذا الطريق الصعب للوصول إلى ما فكرت به البشريَّة، إلى ما أرادته، وضحّى من أجله مؤمنون مخلصون. الثقافة، الثقافة الفكريّة، ما نالت حريتها يوماً واحداً في التاريخ كله: هي تحاول أن تقوله همساً أو بحذر وخوف أو تجهر به وتغيب!، حقيقة صعبة مؤسفة يجب تقبّلها: إنَّ الطريق الذي تسير فيه الثقافة هو دائماً طريق صعب، إن لم يكن أصعب الطرق!.