الأمكنة في مخيّلة الشعراء
يوسف المحمداوي
"ذاكرة مكان" أصبحت ملازمة كعنوانٍ رئيسٍ أو كعلامة فارقة لصفحتنا الأسبوعيَّة منذ أكثر من عامين رغم انقطاعها عن التواصل مع القارئ لفتراتٍ متفاوتة، ولعدم التطرق والحديث عن أهميَّة الأمكنة في حياة المجتمعات وتأثيرها في حياة الإنسان، نجد من الضروري الإشارة الى هذا المستعمر المحبب لقلوب جميع البشر بمختلف هوياتهم وأهوائهم وتخصيص صفحة هذا الأسبوع من ذاكرة مكان للحديث بتمعنٍ عن الأمكنة كمسقطٍ للرأس، أو مناطق للعيش، أو آثار حضارة للتفاخر، أو سحر طبيعة للتغزل
فالمكان ليس مجرد موقعٍ جغرافيٍ وتضاريس تشغل القلب والعقل، بل هو لا يقلُّ شأناً عن سلوكياتنا نحن البشر، ففي أحيانٍ كثيرة تجده يمنحك السعادة التي لا يمكن أنْ تتخيلها، وأخرى تراه في عيون مشاعرك منبوذاً لا يعني لك شيئاً، بل إنْ صحَّ الوصفُ للمكان أنْ نقولَ إنَّه المسرح الذي تؤدي فيه أعمارنا كبشرٍ دورها في هذه الحياة بجميع تفاصيلها بأفراحها وأتراحها، واليوم نخصصُ الصفحة لأمكنة ألهمت الشعراء وقادتهم الى الإذعان لسلطة المبالغة.
السياب ونهر بويب
لا عجب أنْ تجدَ الكثير من الشخصيات النخبويَّة كأدباءٍ أو فنانين كبارٍ يميلون بصورة لا إراديَّة الى مدن ولادتهم، وقد يذهب التعصب فيهم لمسقط الرأس والمدن التي عاشوا فيها للمبالغة في تصوير سحرها وفتنتها وإيهام المتلقي لقصائدهم أو رواياتهم أو لوحاتهم بأشياءٍ ليس فيها، بمعنى آخر رسم صورة خياليَّة للأمكنة التي عشقوها خلافاً للواقع، وهذا الأمر ينبعُ من تعلقهم بالمناطق التي ولدوا فيها ويعدًّونها من أجمل بقاع الأرض الموجودة في هذا العالم، والأمثلة كثيرة على ذلك سنورد بعضها في ذاكرة مكان هذا الأسبوع. في العام 2017 وأثناء انعقاد مهرجان المربد الشعري في محافظة البصرة الحبيبة والذي حضره الكثير من الشعراء العرب كما هي العادة في ذلك المهرجان، وكانت من ضمن فعالياته هي زيارة ميدانيَّة الى قضاء أبي الخصيب وبالتحديد الى قرية جيكور محل ولادة شاعرنا الخالد بدر شاكر السياب، وللأمانة أقولها إنَّ جميع المدعوين من الشعراء العرب ذهبوا معنا بلهفة وشوق لرؤية جيكور ونهرها بويب وكل ما خلده الشاعر لمسقط رأسه في قصائده العظيمة وما أكثرها وما أجملها، دخلنا بيت السياب الرائع والواسع بعد أنْ امتدَّت له يدُ الإعمار والاهتمام من قبل الحكومة المحليَّة وهو أبسط ما يجب أنْ يقدم لدار رائد القصيدة الحديثة، وتوزعت الوفود القادمة معنا، ما بين إلقاء القصائد في حضرة الغائب الحاضر، وأخرى تتمتعُ برؤية المكان، بل البعض تسلّق سلم المنزل الى سطحه ليمتع عينيه من الأعلى وكنتُ من بينهم مفتوناً بجمال الطبيعة وسحر البساتين في قرية جيكور، ففاجأني الصديق الشاعر اليمني هاني الصلوي برغبته مع ثلاثة شعراء مصريين بالذهاب لرؤية نهر بويب الذي خلده السياب في أكثر من قصيدة، فذهبنا باتجاه بويب الذي يبعد بضع أمتار عن الدار.
إحراجٌ بعد ذهول
"بويب" في الحقيقة ليس نهراً كما وصفه الشاعر وما هو إلا عبارة عن ساقية ضمن الكثير من السواقي التي تعدُّ وسائل إروائيَّة لبساتين النخيل التي تشتهر بها منطقة أبي الخصيب الى يومنا هذا، وهو يأخذ المياه من ساقية أخرى أكبر منه تسمى (البكيع) تأتيها المياه من شط العرب، والشاعر كما أسلفنا بالغ في عشقه لمكان ولادته حتى حول الساقية نهراً أو بحراً.
عند وصولنا إليه أنا والشعراء العرب لم نجد سوى مجرى عادي، أو ما نسميه في الريف الجنوبي (الدوّاره) لا يتجاوز عرضه المتر الواحد، والمياه التي فيه عبارة عن خيط ماءٍ أخضر غطته الأشواك والحشائش وبقايا من آثار قوارب توسدت جانبيه، ولا وجود للماء الجاري فيه، فوقفت مذهولاً مع صحبتي والمصريين بالأخص الذين دار بينهم وبين السياب الغائب والحاضر بقصائده حوارٌ كوميديٌ عن بويب، قال أحدهم: "والله كنت فاكر بويب أكبر من نهر دجلة"، والثاني بابتسامة ساخرة يقول: "إيه يعم يبدر بتتمسخر علينا.. فينه نهر بويب يباشا"، والثالث الذي زاد من انكساري وخجلي منهم وكأنَّي السياب وهو يقول "يعمي يبدر وريني الميّه العاوز تغرق فيها، يا نور عيني فينه المحار اللي عاوز تنط عشانه" وهي إشارات لإحدى قصائد السياب عن بويب التي يقول فيها "وأنت يا بويب.. أودُّ لو غرقت فيك، ألقط المحار... أشيّد منه داراً.. يضيء فيها خضرة المياه والشجر... ما تنضح النجوم والقمر... وأغتدي فيك مع الجَزْرِ إلى البحر!".
فما كان مني إلا أنْ اختلقَ الأعذار وقد يكون بعضها صحيحاً والآخر صنعته خيبة الموقف، ومن أعذاري أنَّ النهر كان كما وصفه السياب لكنَّ الظروف الجويَّة وانحسار المياه والحروب والحصارات
التي مرَّت على العراق جعلت من بويب العظيم
يتحول من نهرٍ الى مجرد ساقية آسنة شأنه شأن العديد من الأمكنة التي تنازلت عن عرش
ترفها استجابة لسلطة تغيرات الزمن ونكباته، فضلاً عن أنَّه كتب القصيدة في خمسينيات القرن
الماضي.
شوقي وجبل التوباد
في لحظة الحياء التي عشتها أثناء ذلك الموقف ذكرت للأخوة المصريين الذين أحرجوني وقتها بردة أفعالهم الساخرة، بأنه لم تخل الكثير من كتابات الأدباء والكتّاب العرب عن ذكر أمكنة من نسج خيالهم والتقمص فيها بشخصيَّة البطل وهم في الواقع غير موجودين فيها زماناً ومكاناً، والسياب بوصفه لبويب كان موجوداً روحاً وشعراً في المكان ولم يخلّده عن فراغٍ كما فعل الكثير من عمالقة الأدب كالشعراء في قصائدهم، ومثال ذلك قصيدة "جبل التوباد" لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي خلّد ذلك المكان المقفر رغم أنَّه لم يولد أو يعش فيه أو حتى يزوره، وجعل منه روضة عشقٍ فاتنة يعطرها أريج الصبا والطفولة، من خلال كلماتٍ ساحرة أعطى للمكان الخرب الذي لا حياة فيه صورة أخرى تفوق الخيال حتى انتشرت القصيدة انتشار النار في الهشيم، لتتجاوز رائعة شوقي جغرافيَّة الوطن العربي وتترجم للغاتٍ أخرى لتصبح داعية ودعاية إعلاميَّة لجذب السياح لذلك المكان الذي بالتأكيد سيصعق من يزوره ويجده وسط الرمال عبارة عن جبلٍ صخري وغارٍ لا حياة فيهما وبعيدٍ كل البعد عن الصورة التي رسمها شوقي عن ملتقى العاشقين قيس وليلى، وهنا أجد نفسي انتصرت لسيابنا ولبويب على حساب ما وردت من أحاديث للشعراء العرب عند حضرتي جيكور وبويب، وليس على حساب قصيدة الكبير أحمد شوقي ورائعته "جبل التوباد"، لذلك سأورد للقارئ بعضَ المعلومات عن جبل التوباد ورائعة الأمير شوقي.
غار قيس وليلى
يقع جبل التوباد في مدينة الأفلاج التي تقع في الجنوب الغربي من مدينة الرياض في المملكة العربيَّة السعوديَّة، وارتبط الجبل بقصة الحب الشهيرة بين ليلى العامريَّة وقيس بن الملوح، والتي تجمع وتؤكد المصادر التاريخيَّة أنَّ الشاعر بن الملوح كتب الكثير من أشعاره على قمة هذا الجبل، وتضيف تلك المصادر وهذا ما تؤكده الصور أنَّه وسط ذلك الجبل توجد فتحة صغيرة وهي عبارة عن غارٍ يُعرف بـ"غار قيس وليلى"، ومساحته لا تتعدى الأربعة أمتار، وتحكي القصص التاريخيَّة عن أنَّ قيس وليلى كانا يتبادلان الأشعار فيه، كما تشير المعلومات الى وجود بعض صخور الجبل نقشت عليها بعض أشعار المجنون بفاتنته ليلى التي لم يحظ بها بسبب ممانعة أهلها لزواجه منها، الشاعر أحمد شوقي في مسرحيته "قيس ليلى" لم يكن وليد المكان الذي عاش فيه العاشقان، لكنه استوحاه من قصائد قيس العذريَّة في ليلاه فكانت قصيدته من وحي الخيال والتي يقول فيها: "جبل التوباد حياك الحيا... وسقى الله صبانا ورعى... فيك ناغينا الهوى في مهده... ورضعناه فكنت المرضعا... هذه الربوة كانت ملعبا... لشبابينا وكانت مرتعا... كم بنينا في حصاها أربعا.. وانثنينا فمحونا الأربعا.. وخططنا في نقا الرمل فلم.. تحفظ الريح ولا الرمل وعى.. لم تزل ليلى بعيني طفلة.. لم تزد عن أمس إلا إصبعا".
"زنوبة" التي خلدّها الجواهري
دار حديثٌ بيني وبين حيدر حسين صاحب مكتبة العصريَّة أثناء زيارتي لمحافظتي ميسان في العام 2012، وجاء ذكر شاعرنا الكبير
محمد مهدي الجواهري الذي كان يتردد على المكتبة في خمسينيات القرن الماضي بفترة نفيه من قبل السلطة الى منطقة علي الغربي،
وورد في حديثنا أسباب كتابة الجواهري لقصيدته الشهيرة "يا أم عوف عجيبات ليالينا"، فحملت عدة عملي وسفري في اليوم الثاني وتوجهت الى قضاء علي الغربي، وبعد عناء سفر وأسئلة بحث وجدت ضالتي في قرية تسمى "الكبسون" والتي تقع فيها دار المرحومة "أم عوف" والذي لم أجد فيه غير ولدها "عوفي" والذي أسماه الشاعر في قصيدته "عوف" وزوجته وأحفادهما.
عرفنا من عوف الذي توفي قبل ثلاثة أعوام
بأنَّ والدته ضيّفت الجواهري في صهوتها، ونحرت له ومن معه أحد الخرفان وما لديها من الدجاج، وكان والد القاص عبد عون الروضان شرطياً في المدينة وقد حضر الوليمة وهو من قام بذبح الخروف للضيوف كما ذكر لي المرحوم أبو سعد صاحب المكتبة العصريَّة الذي كان أيضاً حاضراً الوليمة وكتابة القصيدة التي أكملها الجواهري في ليلة وجوده هناك.