{دفاتر السينما} تفتح ملف إعادة التفكير في تاريخ الفن السابع

ثقافة 2024/08/19
...

 تقديم وترجمة: مبارك حسني

المقدمة: 

المقال أدناه هو تعريب لافتتاحية المجلة السينمائية الفرنسية، "دفاتر السينما"، التي تصدرت عدداً مزدوجاً، في هذا الصيف، لشهري يوليو-آب 2024. وفيه تقدم المجلة ملفاً كاملاً عن تصور جديد لتاريخ السينما، يأخذ بعين الاعتبار، إلى جانب التراكم الفيلمي الحاصل بعد قرابة 130 سنة من عمر الفن السابع، المستجدات على ضوء الفكر الإنساني حاليا.

 مع التقدم الهائل في مجال الإعلاميات والاتصالات، والسياسة والتغيرات الكبرى التي عرفها العالم. ومن الأسئلة المطروحة، تأتي مسألة التاريخ، وبأي شكل يجب تناوله، وحسب أي معطى؟ الزمني التسلسلي، أم اعتبار اللحظات التي عرفت التطورات التقنية الفاصلة، أم إعادة كتابة التاريخ السينمائي، مع ذكر كل الجغرافيات السينمائية المنسية، الجنوبية أساساً، كما عن دور الفن السابع آنياً كقاطرة ثقافية ذات بعد إنساني خالص، تمنح الفرد مقومات الحياة بشكل ذكي. وهذان المعطيان الأخيران هما اللذان ركز عليهما الملف.

فالتاريخ المكتوب حتى الساعة، تحكمتْ في مفاصله التصورات السياسية التي كانت سائدة طيلة القرن العشرين، والتي أعلت من شأن أفلام، وبخست أخرى، ومرت مرور الكرام على روائع ومخرجين كبار. ومن بين الأمثلة، يرِد ذكر الكتاب التاريخي الرئيس في هذا الشأن الذي كتبه الناقد الفرنسي المعروف جورج سادول، والذي كان شيوعي الانتماء، وبالتالي كان منظوره للأفلام وللسينما متأثراً بهذا الأمر، ولم ينقذه سوى كون قلمه وأسلوبه كناقد، لا يزالان يتمتعان بتأثير 

كبير. 

التاريخ روايات من زوايا مختلفة، لكن حاصل الأمر، في كون تاريخ السينما لا يتجاوز بضعة عقود، يجعل الروايات هذه عرضة، إيجاباً أو سلباً، للتغيير الكبير. بل وقد تُثار آلية معاودة النظر في كل شيء مَكتوب ومَقول 

من قبل.


الافتتاحية : التاريخُ مستقبلٌ أيضاً

ارتبط تاريخ السينما أولاً، وبشكل كامل، بتاريخ القرن العشرين، حيث رافقت السينما تقدمه وكوارثه، جماله وأهواله. وفي هذا التعريف للسينما بقرن كامل، يتجلى الفرق بين الأمس واليوم في كون هذا القرن، قد انتهى الآن. وفي النظرة الاسترجاعية التي نلقيها على السينما، يتم إدراكها وتصورها أحياناً، بعيداً عن خصوصياتها وعن ما يميزها، فيتم اعتبارها حينذاك، مجرد عنصرٍ من عناصر عصرٍ يمكننا النظر إليه عن بُعد. وهذا ما يحصل حين يُنظر إليها من منظور جديد سياسي (مثل منظور الحركة النسوية أو منظور المناصرين لإنهاء الاستعمار، على سبيل

المثال).

في بعض الحالات، يصل الأمر إلى رفض حتى الأسباب التي جعلت السينما تحتل مكانة عالية في القرن العشرين، من حيث قيمتها كفن، والاختراع الرائع للأشكال التي مثلتها، والتي لم تكن مناقضة أبداً للنضال من أجل قضية أو أخرى.

بالطبع، عندما تتم الدعوة إلى إعادة التفكير في السينما،  فليس الهدف هو الاقتصار على التفكير في الماضي، بل أيضاً النظر إلى الحاضر. لأن أي طريقة للنظر إلى تاريخ السينما، هي أيضاً طريقة لتعريف قدراتها ووظائفها. في كتاب "هل انتهى تاريخ الفن؟" (1983)، يحلل هانز بيلتينغ بشكل ممتاز كيف يذوب تاريخ الفن، كمفهوم وكعلم محدد، عندما يفقد الفن قيمته في المجتمع، فيصبح تاريخ الفن حينها فصلاً من فصول تاريخ أوسع لا غير. 

بعبارة أخرى، الإيمان بتاريخ السينما، يعني عدم التفكير في أنها مجرد فصل في تاريخ الفن، والذي يُفهم هو نفسه كنظام من بين أنظمة أخرى لفهم وإعادة إنتاج رمزي للعالم. السؤال الحقيقي، والمثير للدهشة، هو ماذا ننتظر من السينما بعد الآن؟ كيف يمكنها أن تستمر في لعب دورٍ في كل مناحي الإنسانية، كما حدث أن فعلتْ طيلة القرن

العشرين؟. 

في كل الأحوال، نأمل ألا يكون الهدف غير المعلن حالياً في أوساط سينمائية وسياسية كثيرة، هو استعباد وتسليب البشر بشكل أنجع وأوسع، كما يحدث في كل مرة يتم فيها خفض قيمة الفن إلى مجرد وسيلة ترفيهية أو اعتباره مجرد نزوة غير ضرورية. سيكون ذلك إذا صحَّ مُحزناً بحق.

إذا كانت الأولوية اليوم بالنسبة للكثيرين هي تأمين نفقات معيشتهم ودفع الإيجار، فيجب أن نتساءل عن المجتمع الذي أجبر مواطنيه على الاعتماد على هذه الضرورات فقط، إلى درجة الاعتقاد بأنه يجب التصويت (في الانتخابات في العالم الغربي حالياً) فقط بناءً عليها، وعلى المخاوف التي تثيرها.

إبعادنا وفصلنا عن الاهتمام بالفن والتاريخ، اللذين يساعداننا على النظر إلى أبعد وأعمق مما تبدو عليه الأشياء والظواهر، هذا الإبعاد وهذا الفصل هما اللذان يسهمان كثيراً في وجود هذه النظرة الحياتية المتسلطة المرتبطة فقط بالمعيشي المادي المحض لا غير. إن السينما لا تكون عظيمة إلا عندما تتذكر هذه الحقيقة ولا تنساها، أي لا تنسى قدرتها على رفع الإنسانية إلى مستوى قيمة أعلى وأسمى.