طه جزّاع يغازلُ الحياة

منصة 2024/08/19
...

 يوسف المحمداوي

 

يقول المفكر والأكاديمي د. عبد الجبار الرفاعي: د. طه جزّاع استاذ فلسفة، وقارئ وكاتب، متمرّس في الكتابة الصحفيَّة، وأنت تقرأ كتاباته يأخذك في رحلة ماتعة إلى قراءاته المتنوعة، لا تخرج مما قرأت إلا وأثرى معرفتك بمعلومة جديدة، وكتابٍ وكاتب ربما لم تقرأ له من قبل، ورؤيةٍ ذكية يحضر فيها عقلٌ بفكر أبعد من سطح الأشياء وظواهرها الخادعة. 

فيما يختصر لنا الإعلامي والأكاديمي د. كاظم المقدادي مقدمته عن كتاب الأيام الإسطنبولية بعنوان قد يغنينا عن معظم ما كتبه في تلك المقدمة التي طرزها بقوله: "كمٌ هائل من المعلومات لا تخلو من المفاجآت" وصدق المقدادي في ذلك، بل وأجاد التشخيص لما جادت به قريحة مؤلف يفتتح كتابه بكلمات مدهشة ومثيرة للشاعر التركي ناظم حكمت، يقول فيها إن "أجمل البحار ذلك الذي لم تذهب إليه بعد، وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد، وأجمل أيامنا لم نعشها بعد، وأجمل ما أود أن أقوله لك لم أقله بعد".

الكاتب الماتع بسرده لم يشأ أن يخرج من عنوان منجزه الإسطنبولي من خلال استشهاده بشاعر تركي، وتعزيزا لارتدائه ثياب الباشوات استنجد بمقولة الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي المتوفي والمدفون بتركيا والتي يقول فيها "من جمال الحياة أن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر، أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ، وكأن ما جاء به الكاتب من الوصفتين البلاغيّة لحكمت والرومي ما هي إلا مقبلات لوجبة كلام شهية وسط مائدة منجزه الإبداعي وأفلح في ذلك.وجزاع أكاديمي بدرجة استاذ بروفيسور في جامعة بغداد، حتى تقاعده عام 2016 ترأس تحرير عدد من الصحف وله مؤلفات عدة: "ابتسم في بغداد، يوتوبيا.. جدل العدالة والمدينة الفاضلة، بين الغيوم.. تحت الغيوم، كابوس ليلة صيف، الصين.. مخالب التنين الناعمة". 

في كتابه "الأيام الإسطنبولية.. أوراق صحفية" الصادر عن منشورات دار عدنان للطباعة والنشر والتوزيع، يبحر بنا من خلال مؤلفه صوب سبعة بحار مختلفة بأمواجها وروافدها ومصباتها، وأقصد هنا السبعة عناوين الرئيسية التي اختارها لرحلته الإبداعية، وكالآتي: "الأيام الإسطنبولية من ص12- ص 25، حرب على الإنسان من ص 29- ص38، بغداد الملوك والباشوات من ص 41- ص67، يوميات الوجع العراقي من ص 71- ص82، حكايات من بلاط صاحبة الجلالة ص 85- ص119، كتب وحكايات من ص 123- ص166، شرق وغرب من ص 169- ص 196، فضلا عن العناوين الفرعية التي أوجدها المؤلف لتسهيل عملية الرحلة للمبحر في عالمه الصحفي المائز".

يبدأ الرحالة جزاع في عنوانه الأول أو رحلته الأولى بالعاشق الغربي وعشقه الشرقي، وما أن تطأ قدماه بر فاتنة الشرق حتى يجزل لها العطاء باطلاق المسميات التي تليق بها واستعمرتها برضى التاريخ والناس:" إسطنبول أو إسلامبول، الأستانة، الباب العالي، دار السعادة، دار السيادة، بوابة النعيم، وريثة القسطنطينية البيزنطية، روما الجديدة" ولم يكتفِ بذلك، بل يوضح لنا بأنها مكان تحقق الرؤية النبوية التي حصلت "لتُفتحنَ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" وجاء ذلك الأمير السلطان محمد الفاتح الذي استطاع القضاء على امبراطوريتين، وأربع عشرة دولة، وفتح مائتي مدينة، ويتنوع كاتبنا في عناوينه الفرعية متنقلا كالفراشة بين حدائق أوراقه الصحفية، ليشبّع القارئ عطرا وسحرا من معلومات اكتنزها ولم يبخل بها علينا، ولا أظن الأمر من اختياره وإنما فرضته عليه مفردات اللوحة التي يجب أن يراها زاهية بألوانها وجاذبة لمريديها ومبهجة لهم لتبتهج روح وريشة الرسام بما أنجز. عنوانه أو رحلته الثانية "حربٌ على الإنسان" يريد أن يعطينا التصور المثالي للفئة القليلة والكثيرة بثقلها العالمي، التي كانت تقف بالضد من الحروب، والعالم برمته يعيش تحت سلطة كابوس كوفيد -19، ويشير إلى اجتماع عدد من العلماء يتقدمهم فيلسوف السلام والداعية الأول له الانكليزي برتراند رسل في جزيرة تقع مابين المانيا وروسيا، ومحاولات رسل وجماعته لوقف الحروب وتجنب الكوارث النووية التي ممكن أن تدمر العالم باجمعه، وينقلنا المؤلف من دون درايتنا من نشاطات الداعين لوقف الحروب، إلى رسل الذي يحاول أن يقنع التاج البريطاني بضرورة بقاء المواطن العراقي خالد أحمد زكي في بريطانيا وعدم عودته إلى بلده، واتمام دورته في رئاسة جمعية الطلبة في بريطانيا، ليعرفنا جزاع عن ذلك العراقي الذي أصبح قريبا من رسل بحيث اصبح سكرتيرا لمنظمته الداعية للسلام، وبالتأكيد فإن شخصيّة مثل خالد أحمد زكي، ليست مجهولة في تاريخ الحزب الشّيوعيّ العراقيّ على اختلاف أجنحته، ولا على عموم اليساريين، ويصفه المؤلف بالرجل الغامض والشخصيَّة الاسطورية من ماض بعيد، ولوسامته شبهه بالفيس برسلي وآلان ديلون، وبالتالي قال عنه إنه أكثر شبها بالممثل العربي العالمي عمر الشريف، بعدها يشير إلى رحيله المفجع وهو في العقد الثلاثيني من عمره بطريقة الكفاح المسلح الجيفارية في مطلع حزيران من العام 1968 مع عدد محدود من رفاقه في هور" الغموكة" القريب من ناحية الغراف، وتلك المواجهة غير المتكافئة دخلت عالم الأدب في رواية " وليمة لأعشاب البحر...نشيد الموت" للروائي السوري حيدر حيدر.

المنجز الإبداعي الذي تجاوز الـ( 200) صفحة وطرزه صاحبه بأكثر من ثمانين عنوانا فرعيا فضلا عن المقدمة، لا يمكن أن تستوعبه مادة صحفيّة مهما حاول كاتبها أن يغطي بعض البعض مما جاء في كتابنا هذا، والأمر المفرح للقارئ، هو جاد به الكاتب من معلومات معرفيّة قيّمة عالميا وعربيا ومحليا، بحيث إنه في كل عنوان من عناوينه الثمانين تجد العشرات من المعلومات التي تضيف لرصيدك كقارئ أو كصحفي ما يجعلك خارجا من رحلة طه جزاع الاسطنبولية وانت ترتدي ثياب الترف المعرفي والفكري، جزّاع غير المجزع في كتابه الممتع والذي يمثل إضافة مهمة واستثنائية لكتب الرحلات وللمكتبة العربية والعراقية، يأخذنا في نهاية منجزه لعنوانه الأخير"طرزان في غابات ما نيسا" لرحلة صوب كتاب آخر للباحث "نعمان الهيمص" المعنون "العابرون حكايات لا تعود..العرب والعالم الجديد" وجزاع يصف الكتاب "أمتع ما كتب عن الرحلات المدونة وغير المدونة، عبر بحر الظلمات المحيط الاطلسي" ومن محاسن الصدف أن الصديق العزيز نعمان الهيمص رافقته برحلة ممتعة ونادرة مابين عمان وموسكو وسان بطرسبورغ، ولا يمكن أن تعود رحلتنا تلك كـ"حكايات العابرون"  في كتاب الهيمص.